منذ ثلاثة عقود بدأ العالم يرسم خارطة موازين القوى الجديدة فيه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومن الطبيعي أن يحدث هذا التحول الجذري بعد سقوط قوة لا يستهان بها كالعقيدة السوفيتية وتبعتها بذلك كل الأنظمة المرتبطة بها في أوروبا الشرقية امتداداً للشرق الأوسط وماعاشه من أحداث فوضوية بدأت بغزو العراق 2003 واستكملت منذ عام 2010 بدول جل منهجيتها كانت تابعة للمنظومة الاشتراكية فما حدث هو انتصار للرأسمالية الغربية بقيادة أميركا لكن نهوض الصين وتطور اقتصادها وتسارع نموه ليصبح الثاني عالمياً أعاد للمشهد الصراع على قيادة العالم ومحاولة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب خصوصاً أن روسيا بعد أن استعادت توازنها من آثار تفكك الاتحاد السوفيتي أرادت أن تعود لتكون قطباً عالمياً لكن هذه المرة ليس من خلال القوة العسكرية إنما اقتصادياً نظير ما تملكه من موارد طبيعية وإمكانيات هائلة يضاف لذلك ما يعمل عليه الاتحاد الأوروبي ليكون مستقلاً بمصالحه وتوجهاته جذرياً عن أميركا.
لكن عند النظر إلى توجهات الاقتصاد العالمي فإن القطاعات التقليدية لم تعد هي مصدر التميز والقوة للدول الساعية لمكانة عالمية ولتكون من أفضل عشرين اقتصاداً فالاهتمام ينصب على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تحديداً وتتفاخر الدول أيضاً بمدى تحولها للاقتصاد الرقمي والمعرفي وتحاول القوى العظمى التي تمتلك التقنية الحديثة وأسرارها وتستحوذ على أكبر حصة بامتلاك التكنولوجيا الحديثة نتيجة لإنفاقها الهائل على البحث العلمي أن تنقل جل الصناعات التقليدية إلى الاقتصادات الناشئة كما فعلت مع دول شرق آسيا وتكتفي هي بامتلاك مفاتيح الاقتصاد الرئيسية واستمرار السيطرة على النظام المالي العالمي والقدرة على التعامل مع كافة الظروف الاقتصادية نتيجة لكون بنوكها المركزية الأكبر والأقوى عالمياً وهي من تحدد مسار أسعار الفائدة وتؤثر بالسياسة النقدية العالمية عموماً وكذلك تدير أغلب الملفات الاقتصادية الدولية من خلال سياساتها التي تؤثر بالتضخم عالمياً وبالتأثير على أسعار صرف العملات والكثير من الإمكانيات التي توظفها لمصالح بلدانها القومية العليا.
فمن الصناعات التي ترتبط بالتكنولوجيا الرقائق الإلكترونية والتي تتسابق الدول على امتلاك أحدث أنواعها وتقنياتها التي تدخل بالذكاء الاصطناعي وتعتبر أساسية بالأجهزة الذكية والسيارات الحديثة التي تتجه لتكون أغلبها ذاتية القيادة فحرب الرقائق أصبحت واقعاً دولياً وتحظر أميركا مثلاً تصدير أنواع من هذه الرقائق متعددة الاستخدامات أي يمكن أن تشغل الأسلحة والأنظمة العسكرية الحديثة وتدخل أيضاً بإنتاج الروبوتات المتقدمة التي تُشغل بالذكاء الاصطناعي كما أن سيطرة شركات تقنية وتكتولوجيا غربية على قطاعات بمجالها يمكن أن يتم من خلالها التحكم بتطبيقات ذات أهمية كبيرة لإنجاز الأعمال في دول عديدة التي لو حجبت في أي دولة فسيؤثر على سير أعمال مجتمعها بالإضافة للدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي والتي تلعب دوراً في تشكيل الرأي ولعب دور الرقيب للهيمنة على توجهات الأفكار والآراء للمجتمعات وهو ما يمثل خطراً في حال استخدامها لأغراض سياسية كما يحدث فعلياً في أحداث كثيرة تجري عالمياً إضافة للاتجاه نحو اقتصاد الفضاء والسيطرة على الكثير من ركائزه بالبث الفضائي والاتصالات والإنترنت وغير ذلك أما ما يحدث من تطور في الميتافيرس فهو يبني لعالم جديد وأثر اجتماعي واقتصادي واسع النطاق إضافة للاستخدامات المتعلقة بالأصول الرقمية والعملات المشفرة التي أصبحت هاجساً مقلقاً للعالم لعدم تبعيتها لبنوك مركزية أو دول تنظم استخداماتها بل وتضع التعريف المناسب لها.
الكثير من التغيرات المتسارعة تحدث بالعالم وستغير الكثير في طبيعة العلاقات الدولية وكذلك موازين القوى وسيكون الاقتصاد الحديث معياراً يسبق كل المعايير في تقييم الدول وتأثيرها بالعالم مع توجّه لتشكل التكتلات الاقتصادية وبنائها على أسس الربط التجاري واللوجستي والاستفادة من الجغرافيا في ترسيخ المكانة الاقتصادية للدول التي تتحالف لتشكل مسارات ربط لخطوط التجارة تجعل منها كتلاً اقتصادية هائلة وترفع من حجم اقتصاداتها مما سيشكل خارطة التأثير والحصص بالناتج الإجمالي العالمي من جديد خلال عقدين من وقتنا الحاضر.
نقلا عن الجزيرة