جدد بنك التسويات الدولية BIS تحذيراته للحكومات حول العالم على لسان مديره أجوستين كارستينز، حيث استبعد عودة أسعار الفائدة إلى مستوياتها المنخفضة السابقة في الأجل القصير، وأن على الحكومات أن تتوقف عن الاقتراض المستمر، أو أنّها تخاطر بإغراق العالم في أزمة ديون، وأن الأسواق المالية يمكنها أن تظل هادئة في مواجهة الاختلالات الكبيرة، إلى أن تعجز فجأةً عن الاستمرار في ذلك يوماً ما، وتأكيد تحذيره على أن جبال الديون التي تراكمت في فترة سابقة على الحكومات في جميع أنحاء العالم، كانت قد بنيت على افتراض خاطئ بأن تكاليف الاقتراض ستبقى منخفضة إلى الأبد! وأنّ أيام أسعار الفائدة المنخفضة للغاية قد مضت، هل بإمكان الحكومات حول العالم ممثلةً في وزاراتها المالية أن تستجيب لهذه التحذيرات؟! الإجابة باختصارٍ شديدٍ جداً قبل التوسّع في التفاصيل؛ أنّ أغلب الحكومات حول العالم لن تستطيع الاستجابة لتحذير بنك التسويات الدولية، فوفقاً لأحدث إحصاءات وتقديرات صندوق النقد الدولي، يُقدّر ارتفاع إجمالي الديون الحكومية عالمياً خلال خمسة أعوام قادمة، رغم ارتفاع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها في أكثر من عقدين من الزمن، بمتوسط معدل نمو يبلغ 6.1 %، وهو أقل بـ 100 نقطة أساس فقط بالمقارنة مع متوسط معدل نموها خلال 2016-2020، ليرتفع إجمالي ديون الحكومات حول العالم من 97.5 تريليون دولار بنهاية 2023 (93.3 % من الناتج الإجمالي العالمي)، إلى أكثر من 131.5 تريليون دولار بنهاية 2028 (98.3 % من الناتج الإجمالي العالمي).
ذلك أن الخيارات القائمة في أطرها المحدودة جداً أمام وزارات المالية عالمياً، تقف محاصرةً في زاوية ارتفاع استقطاع فاتورة سداد فوائد الدين العام في جانب الإنفاق الحكومي نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، عدا مستحقات سداد أصل الديون، وأن كثيراً من الدول على رأسها الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، تقوم بتمويل سداد الديون والفوائد المستحقة بالاعتماد على إصدار ديون جديدة، هذا إضافة إلى تمويل العجز المالي سنوياً بالاعتماد على الإصدارات الجديدة من الديون، وليس في إمكان الحكومات خفض حصص بقية البنود الحيوية الأخرى للإنفاق الحكومي (كالتعليم والصحة والبنى التحتية والأمن والدفاع)، وتحويلها من ثم إلى سداد الديون والفوائد المستحقة، إضافةً إلى ما يمثله الإنفاق الحكومي من أهمية قصوى لاستقرار ونمو الاقتصادات في مختلف الدول، وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي؛ ستحافظ كبرى الاقتصادات في العالم حتى 2028، على إبقاء نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي فوق 40.5 %، وفي دول مجموعة العشرين عند 41 %، وألا تقل عن 32.2 % في الأسواق الناشئة، وهي النسب اللازمة لتحفيز واستقرار نشاطات الاقتصاد الكلي، وأي انخفاضٍ في الإنفاق الحكومي قد يطرأ لأي سببٍ كان، ومنه ما قد يكون بسبب خفض الاستدانة وفقاً لتحذيرات بنك التسويات الدولية، فإنّ عواقبه على الاقتصادات ستكون وخيمة، وهو ما لا يمكن أن تسمح به تلك الدول في مختلف أنحاء العالم.
أخيراً؛ قد تلجأ بعض وزارات المالية في العالم إلى آخر الخيارات وأصعبها، المتمثل في زيادةٍ مفرطة للضرائب والرسوم، ومن ثم زيادة الإيرادات الحكومية، التي تلبي احتياجات الإنفاق الحكومي، وتمويلها من مصادر ضريبية والاستغناء عن تمويلها من إصدار ديون جديدة، أو حتى التوقف عن الاقتراض كإجراءٍ متشدد! وهو الخيار الذي قد يتسبب في إضعاف النمو الاقتصادي الكلي، ومن ثم انكماش متحصلات الإيرادات الحكومية، وزيادة العجز المالي ومن ثم ارتفاع الدين العام وحجم فواتير فوائده! إنها الخيارات المالية الأكثر تعقيداً أمام أغلب الحكومات حول العالم، بمعنى انحصار المفاضلة فيما بينها بناءً على أقل نتائجها ألماً مالياً واقتصادياً.
نقلا عن الاقتصادية