التضخم .. حتى لا تتكرر القصة

17/01/2024 2
عبد الحميد العمري

سيطرت توقعات هبوط التضخم العالمي عامة، وفي أغلبية الاقتصادات الكبرى خصوصا طوال النصف الثاني من العام الماضي حتى ما قبل بيانات الشهر الأخير "ديسمبر"، وسرعان ما بدأ الحديث حول التوجه الوشيك للبنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك الأوروبي المركزي نحو خفض أسعار الفائدة، وكان لتلك التوقعات ما يبررها بالنظر إلى التراجعات التي طغت على معدلات التضخم، حيث تراجع في منطقة اليورو من 5.5 في المائة بنهاية يونيو 2023 إلى 2.4 في المائة بنهاية نوفمبر من العام نفسه، بينما تذبذب خلال الفترة نفسه في الولايات المتحدة بين 3.0 في المائة إلى أن استقر عند 3.1 في المائة بنهاية نوفمبر، وكان قد وصل إلى 3.7 في المائة خلال شهري أغسطس وسبتمبر 2023، وتراجع في كل من المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا حسب الترتيب من 8.0 في المائة و6.4 في المائة و4.5 في المائة، ليصل مع نهاية نوفمبر بالترتيب نفسه إلى 3.9 في المائة و3.2 في المائة و3.4 في المائة، ولم يكن أمام المراقبين لهذا التراجع المتتالي، إلا أن يذهب الأغلبية نحو ترقب متى ستبدأ البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة؟ والبدء بالحديث عن حجم الخفض المتوقع للفائدة، رغم استقرار التضخم أعلى من مستهدفات البنوك المركزية له 2.0 في المائة، ومن هنا يمكن فهم أهم أسباب تلك التوقعات.

كان الأمر مختلفا في غرف عمليات السياسات النقدية داخل البنوك المركزية، التي لم يغير تراجع التضخم واستمراره طوال الفترة أعلاه من عزمها شيئا يذكر، بل لقد شكلت قرارات الاستمرار برفع أسعار الفائدة لدى أكبر البنوك المركزية في العالم، خلال النصف الثاني نحو 30 في المائة من إجمالي قرارات رفعها طوال العام كاملا، وبموجب التصريحات الأخيرة لتلك البنوك المركزية، فلا تزال تحتفظ بنظرتها المتحفظة تجاه مستويات الأسعار، وأنه رغم إنجاز السياسات النقدية المتشددة حتى تاريخه، إلا أن خلاصة قراءة نتائج المؤشرات الأساسية للاقتصادات، لم تظهر بعد ما يؤكد إمكانية التحرك نحو تخفيف تشديد السياسات النقدية، خاصة أن غاية ما تم إنجازه على طريق كبح التضخم، ما زال بعيدا عن الهدف النهائي لتلك البنوك المركزية، حتى مع تحقيقه قد تستغرق بعض الوقت للتأكد من استقرار الأسعار مند مستويات عادلة ومقبولة.

لم يمض وقت طويل، حتى تأكد صواب رؤية البنوك المركزية، حيث أظهرت بيانات ديسمبر 2023، عودة معدلات التضخم نحو الصعود مجددا، رغم أسعار الفائدة ما زالت عند ذروة مستوياتها خلال نحو عقدين من الزمن، حيث ارتفع في الولايات المتحدة إلى 3.4 في المائة، وارتفع في منطقة اليورو إلى 2.9 في المائة، وارتفع في ألمانيا إلى 3.7 في المائة، وارتفع أيضا في فرنسا إلى 3.7 في المائة، بينما تشير التوقعات في المملكة المتحدة إلى انخفاضه إلى 3.8 في المائة (سيكون قد ظهر فعليا بتاريخ نشر هذا المقال). هل الأمر انتهى إلى هذا الحد بكل متغيراته الراهنة على الأرض؟ بالتأكيد "لا"، فما يجري الآن من تطورات واسعة على جانب الاضطرابات الجيوسياسية ينبئ عن ظروف غير مستقرة، قد تسهم بدرجة كبيرة في الدفع بالتضخم نحو الصعود مجددا خلال النصف الأول من العام الجاري، وقد تمتد فترة أطول قياسا على ما ستسفر عنه تلك الاضطرابات في المواقع الجغرافية الأهم للتجارة الدولية والاقتصاد العالمي، أو على أقل تقدير قد يميل التضخم إلى التذبذب في نطاقاته الراهنة، التي تعد أعلى من المستويات المستهدفة للبنوك المركزية.

تدرك البنوك المركزية الحساسية القصوى لأي سياسات نقدية يتم اتخاذها في ظل التطورات الراهنة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وفي ظل الظروف غير المستقرة جيوسياسيا، ويزداد الغموض بدرجة أكبر أمام تصاعد حدة التوتر العسكري في عديد من المناطق حول العالم، وما سيكون له من آثار بالغة في التجارة الدولية وسلاسل التوريد العالمية، وتكفي الإشارة هنا إلى توقعات "بلومبيرج" فيما يخص التوتر الصيني - التايواني، التي ذهبت إلى أن تحوله إلى صدام عسكري سيكبد الاقتصاد العالمي خسائر تتجاوز 10 في المائة منه، أي بما يناهز عشرة تريليونات من الدولارات، ودون الخوض فيما سيترتب عليه في حال وقوعه من تداعيات أخرى لا يقل تأثيرها السلبي في استقرار الاقتصاد العالمي عن الصراع الصين التايواني.

تنصب النظرة العامة للبنوك المركزية في ظل العوامل الراهنة، وتوقعات أن تحافظ على مستوياتها الراهنة دون زيادة توترها، على عدم تكرار أخطاء 2021 التي ظنت أن تصاعد التضخم كان مجرد ظاهرة مؤقتة، سرعان ما وجدته بعد أقل من عام يقف عند أعلى مستوياته منذ 1982، ويؤكد صواب ووجاهة هذه النظرة عودة التضخم للصعود مجددا قبل نهاية 2023، رغم ذروة التشديد في السياسات النقدية، وأن أي تساهل في تلك السياسات قبل أوانه قد يفسح المجال أمام التضخم للزحف صعودا نحو مستوياته العالية خلال 2021 - 2022، وفي حال حدث ذلك، فإن الأخطار سترتفع بدرجة أكبر بكل تأكيد، وسيقتضي مواجهة تحديات أكبر كتلك التحديات سياسات نقدية أشد مما سبق اتخاذه طوال العامين الماضيين، ولا يعلم حجم الآثار العكسية لتلك السياسات في الأسواق العالمية، التي قد تدخل في موجات تصحيح سعرية قاسية، ما سيقتضي بدوره تحفيزا لتلك الأسواق لتخفيف صدماتها، وهي الحالة الكبرى من التناقضات في السياسات النقدية والمالية والاستثمارية، التي لن تأتي بأي حال من الأحوال عابرة وسط هذه السخونة الشديدة للأوضاع الجيوسياسية حول العالم.

لهذا تعتقد البنوك المركزية وسط هذه الظروف الراهنة، وأمام تطوراتها الخارجة عن السيطرة، أنها في غنى تام عن مواجهة أي مستوى من السيناريو أعلاه، وأنها ستظل عادة مراقبة بحذر شديد للتطورات الاقتصادية والمالية، وتحتفظ بثبات سياساتها إلى أن يظهر من المؤشرات الأساسية، ما يؤكد ضرورة تخليها عن سياساتها الراهنة، إما بتخفيف تشديدها النقدي، أو حتى بزيادته إن اقتضت الحاجة، وذلك ما سيستمر متابعته خلال الفترة المقبلة من قبل الأطراف كافة في مختلف الاقتصادات والأسواق، شأنه شأن ما تمت متابعته طوال العامين الماضيين.

 

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية