شركة توشيبا عبارة عن مجموعة عملاقة عمرها 145 عاما، وذات شهرة واسعة في عالم التكنولوجيا، وإحدى مفاخر الصناعة اليابانية، وكانت ذات يوم واحدة من الشركات الـ20 الأكثر قيمة في العالم. في 2015 كتبت مقالا عن المشكلات والأخطاء المحاسبية التي وقعت فيها شركة توشيبا، ومن هو المسؤول مباشرة عما حصل من تلاعب بالقوائم المالية، وناقشت مسؤولية المراجعين الداخليين والخارجيين عن ذلك، كانت مشكلة "توشيبا" "الظاهرة للإعلام حينها" تتلخص في أن إدارة "توشيبا" طوال سبعة أعوام تعمل على إخفاء خسائر بلغت قيمتها أكثر من مليار دولار ناتجة عن قرارات خاطئة اتخذتها الإدارة قبل الأزمة المالية العالمية 2008، ثم تزايدت الخسائر مع زلزال "فوكوشيما" 2011، وقلت حينها: إن المدهش حقا قدرة ثلاثة رؤساء تنفيذيين لـ"توشيبا" على اقتراف 12 حالة، ما بين 2009 والعام المالي 2013، تركزت حول تأجيل سافر للاعتراف بالخسائر، والتلاعب الفج في نسب إنجاز المشروعات، من أجل تأجيل الاعتراف بالتكاليف، وما أدهشني حينها هو أن مثل هذا التلاعب بسيط، يمكن كشفه من مجلس إدارة محترف.
لكن الذي ثبت هو تورط ثلاثة من الرؤساء التنفيذيين الذين تعاقبوا على قيادة الشركة، وهذا جعلني أضع سؤالا ضخما عن مشكلة "توشيبا"، فهل يعقل أن ثلاثة رؤساء تنفيذيين في شركة بحجم وقوة "توشيبا" يتفقون جميعهم على إخفاء الخسائر طوال هذه المدة الطويلة؟ وقلت حينها إن فضيحة "توشيبا" ليست فضيحة محاسبية كما قرأها الإعلام أو كما حاولت "توشيبا" أن تزيفها، بل أكدت أنها كارثة في عالم الحوكمة، ولم تسجل حالات ـ في حد علمي ـ بهذا السوء. قلت في مقالي السابق المنشور في "الاقتصادية" 2015، إن اللجان المختصة بالتحقيق في مشكلة "توشيبا" أشارت إلى أن الثقافة السائدة في "توشيبا" هي التي أوجدت هذه المشكلة الخطيرة جدا، فالرئيس التنفيذي الجديد الذي يصبح في الخط الدفاعي الأول يرشحه دائما الرئيس التنفيذي السابق له، والرئيس السابق لا يخرج من الشركة، بل ينتقل إلى الخط الدفاعي الثاني "الرقابي"، كما أن الشركة لا تتخلى عن الرؤساء السابقين، بل يبقون في إدارة الشركة على شكل مستشارين، كانت مشكلة الحوكمة واضحة جدا، لكن لم يشر إليها أحد حينها بشكل كامل، ولذلك تركت لتنمو وتترعرع في جسد "توشيبا" كورم سرطاني خبيث.
لقد أدت تلك الفضائح "المحاسبية" إلى خفض تصنيف "توشيبا" في بورصة طوكيو وأجبرتها على إصدار أسهم جديدة بقيمة 5.4 مليار دولار في 2017، وتطلب الأمر جذب المستثمرين في الخارج، الذين طالبوا بتغيير ثقافة الشركة وزيادة المساءلة وعوائد أعلى بسعر معقول، وكانت الحكومة اليابانية تعمل على إصلاحات الحوكمة كوسيلة لجذب تلك الاستثمارات، وكما تشير بعض التقارير فقد امتثلت "توشيبا" وعينت أعضاء مجلس إدارة مستقلين غير يابانيين، وذلك لأول مرة في محاولة لتحويل ثقافة الشركة، وامتثالا للمساءلة، والحوكمة، لكن ذلك كان على الورق فقط. فحينما واجه الرئيس التنفيذي وغيره من أعضاء مجلس الإدارة اليابانيين تصويتا لإعادة انتخابهم في اجتماع الجمعية العمومية العام الماضي، ولأن نتائج التصويت كانت متقاربة فقد تواطأت الشركة مع المسؤولين الحكوميين للضغط على أحد كبار المساهمين ـ وقف جامعة هارفارد ـ حتى لا يصوت ضدهم. كما تبين أن خمسة ملايين صوت تخص واحدة من أكبر المساهمين، شركة 3D التي يوجد مقرها في سنغافورة، لم يتم حسابها، لم تقف المشكلة هنا بل تم رفض طلبات صندوق سنغافوري، وهو مستثمر كبير آخر، لإجراء تحقيق مستقل حول التصويت في الجمعية العمومية السنوية، ثم نجح هذا الخصم العنيد في الفوز بأغلب المساهمين لمصلحة إجراء تحقيق مستقل، فيما عد هزيمة للإدارة اليابانية.
ويوضح التحقيق المستقل الذي أجراه ثلاثة محامين، بالتفصيل كيف نسقت "توشيبا" مع مسؤولين من وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة لمنع المساهمين من تقديم مقترحات وممارسة حقوقهم في التصويت، وخلص التقرير إلى أن الجمعية العامة السنوية لشركة توشيبا في يوليو 2020 "لم تتم إدارتها بشكل عادل"، حاولت "توشيبا" أن تعالج ما يمكن معالجته، فتم عزل اثنين من أعضاء المجلس من قائمة المرشحين لمجلس الإدارة للجمعية العامة السنوية لعام 2021 وتعهدت بإعادة تشكيل مجلس إدارتها وتنويعه ليشمل مزيدا من الممثلين الأجانب. مع ذلك، ظل معظم المساهمين ينتقدون عملية ترشيح "توشيبا"، كما انتقدوا أيضا قائمة مرشحي مجلس الإدارة المنقحة، التي لا تزال تتضمن أعضاء لجنة التدقيق الذين شاركوا في تحقيق سابق في الجمعية العمومية السنوية لعام 2000 التي لم تكشف عن أي مشكلات. ولذلك، صوت مساهمو "توشيبا" بنجاح على عزلهم من عضوية مجلس الإدارة في اجتماع الجمعية العمومية لعام 2021.
أخيرا قدمت شركة للأسهم الخاصة عرضا بقيمة 20 مليار دولار في أبريل الماضي، وفي تقرير مهم ذكر أن على مجلس الإدارة الجديد أن ينظر بجدية في عروض الأسهم الخاصة، وإذا أخفقت في ذلك، فإن "توشيبا" تحتاج إلى رئيس تنفيذي جديد يتمتع بالمهارات الصناعية اللازمة لخفض التكاليف وتعزيز الأرباح والثقة اللازمة للتوقف عن طلب الحماية الحكومية، وقد تحتاج إلى البحث خارج اليابان، كما فعلت شركات تاكيدا وميتسوبيشي كيميكال وجيه إس آر. وهكذا وكما أشرت قبل نحو ثمانية أعوام، إلى أن ما ظهر وكأنه مجرد تلاعب محاسبي، كان يخفي مشكلة حوكمة عميقة وخطيرة جدا، لقد انتهت شركة "توشيبا" اليوم، لكنها جعلت المستثمرين الأجانب غير متأكدين بشأن الاستثمار في الأسهم اليابانية، ما يجعل الأمر لا يمثل مشكلة "توشيبا" فحسب، بل مشكلة لسوق الأسهم اليابانية بأكملها.
نقلا عن الاقتصادية
عند تقاعد الرئيس التنفيذي أو القائد وجعله يبقى في بيئة العمل كمستشار هو أحد أبرز الممارسات العالمية في الهيكلة الإدارية للكيان، بالإضافة لاستحداث أو وجود وظيفة نائب رئيس تنفيذي أو القائد. كما أن الحوكمة هي ترابط الجهات الداخلية والخارجية ببعضها البعض ومسار الإجراءات بينها مثلا مع المراجع الداخلي والخارجي والمدقق وهيئة سوق المال وغيرها من الجهات بما يضمن سلامة الإجراءات وليست مقتصرة على ئيس تنفيذي لشركة، لكن يبدو أن الرئيس التنفيذي استطاع التغلب على الكثير من العقبات "الحوكماتية" والتزييف بنجاح ونقل معرفة هذه المهارة لمن بعده ثم الذي بعده.