أبلغُ من سحبان وائل

17/12/2023 2
د. إبراهيم بن محمود بابللي

كنت أعمل مستشارا في إحدى الجهات الحكومية عندما طُلِبَ مني صياغةُ كلمة افتتاحية ليلقيها رئيس تلك الجهة في افتتاح مؤتمر عالمي عن تقنية النانو، نيابة عن الملك. جاء التوجيه بإلقاء الكلمة نيابة عن الملكِ مفاجئا لرئيس الجهة، وللفريق التنفيذي العامل معه. ولحسن ظنِّهِم بي وبما يخُطُّه قلمي، ولضيق الوقت، اقترح رئيسي المباشر عليهم أن تُسنَدَ مهمة صياغة الكلمة لي. وهذا ما كان، من نافلة القول إن كثيرا من الزعماء والملوك والقادة لا يكتبون خطبهم أو رسائلهم، بل يكتبها لهم كَتَبَةٌ ضُلُعٌ في هذا الفن، لا تُعرَفُ أسماؤهم عادة إلا عندما يتوقفون عن الكتابة لذلك القائد أو الزعيم. وكان أشهرَهم في عالمنا العربي محمد حسنين هيكل الذي عُرِفَ عنه كتابةُ خطبِ الرئيس المصري جمال عبد الناصر. أما في الغرب فلهذه الحِرفَةِ كَتَبَةٌ معروفون أثناء عملهم كتّابا للرؤساء والقادة. كما اشتهر أيضا عدد من الزعماء ممن عُرِفوا بكتابة خطبهم وعدم اعتمادهم على كَتَبَةٍ محترفين، مثل الرئيس اللبناني شارل الحلو والرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن.

استعنتُ بالله وبدأت العمل على صياغة الكلمةٍ المطلوبة، منطلقا من أن هذه الكلمة هي كلمةُ الملكِ التي ستُلقى في افتتاح مؤتمر عالمي عن تقنية النانو، صِغتُ الكلمة جَزْلة، ألفاظها فصيحة، وجُمَلَها مترابطة، تحمل معانٍ دقيقة وعميقة، وتستشهد بآيٍ من القرآن عند مناسبة الاستشهاد، تشرح وتُبَسِّطُ هذه التقنية الناشئة وتحيل السامِعَ إلى قطاعات اقتصادية تتقاطع معها، وتختم بمقترحات ذاتِ بالٍ ولكن ليس بينها التزامات. ثم راجعت الكلمة مرارا، وعدّلتُ بعضها وأضفت كلمة هنا، وحذفت أخرى هناك، رحم الله القاضي الفاضل الذي كتب: "لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لوُ غُيّرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"، سلّمتُ الكلمة، ولم يرجع لي أحدٌ من المكتب التنفيذي لمراجعة أو تنقيح أو تعديل. كنتُ فخورا بما كتبت، لأنني أحسست أنني كتبت كلمة مناسبة لافتتاح المؤتمر.

جلست في القاعة الكبرى صباح افتتاح المؤتمر، منتظرا سماع الكلمة التي كتبتُها ليلقيها رئيس الجهة، متطلعا لأثرِ بلاغتِها في الحضور، مُؤمِّلا نيل استحسان من أسند لي مهمة كتابتها. لكن ما سمعتُه أذهلني، وكأن أحدَهم لطم وجهي. كان رئيسُ الجهة يقرؤ بضع كَلِماتٍ ويدعُ أخرى، ويستبدل كلمات بغيرها، ويلحَنُ في مواضعَ كثيرة لحنا جليا، ينتبه هو له أحيانا فيعيدها صحيحة، ويتجاوزها أحيانا. ومثال ذلك: كنتُ كتبتُ "إن طريقَ البحثِ العلمي واسعُ المفازة"، أعني بذلك أنه صعبٌ تكنُفُه المخاطر، ولكن المتحدث اكتفى بـقوله "إن البحث العلمي واسع"، فتغير معنى الجملة ولم يعد لها رابط بالتي تليها.

حُسْنُ خُلُقِ ذلك الرئيس وكرمُ أخلاقِه جنّبَني اللوم والمساءلة، ولكن تلك التجربة علّمَتني الكثير.

====================

دروس مستفادة:

· بلاغةُ الكلامِ هي أن يكون متوائما مع ما يقتضيه حال الخطاب، مع فصاحة ألفاظ مفرداته ومركباته. هكذا تُعَرّفُ البلاغة. وأضيف إليها ضرورة أن يكون الكلام مناسبا لم يقتضيه حال المتحدِّثِ، بالإضافة إلى السامع

· تعرّف على من تعمل معه، لأنك إذا عرفتَ أصبتَ في اختياراتِكَ وعملِك

· أضِفْ إلى ما طُلِبَ منك العملُ عليه، قائمة بما ينبغي للمتلقي عملُه استعدادا لأدائه بشكل صحيح، لأن ما تعتقده أنتَ سهلا ميَسّرا قد لا يكون كذلك لغيرك، والعَكْسُ قد يكون صحيحا

 

 

 

 

 

خاص_الفابيتا