الحوكمة في عالم متعدد الأزمات

17/12/2023 0
د. محمد آل عباس

خلال الأسبوع الماضي تحدثت عن الأخطار والرقابة، في عالم يتسم بالتقلبات السريعة وانتشار عدم اليقين والتعقيد التقني المتزايد، وأشرت إلى الحل الذي ترشحه منظمة كوسو وهو "الممارسات الرشيقة"، فلم تعد الإجراءات الطويلة والتفكير المتأني الطويل والتراخي في القرار تسهم في مواجهة التقلبات والتغيرات المتسارعة، فالخطط الاستراتيجية التي يستغرق إعدادها وتطبيقها أعواما أصبحت اليوم عبئا أكثر منها فائدة، لكن هذا الاتجاه يضع عديدا من الأسئلة في الواجهة، وهي التي تتطلب منا إجابة واضحة، ‏فهل هذه الممارسات الرشيقة تعني أن نضع الحوكمة والرقابة وتطبيق النظام على الرف؟ وهل الممارسات الرشيقة تؤثر في الجودة؟ هذه الأسئلة المشروعة جدا، تتطلب توضيحا في هذا المقال، فالإدارة الرشيقة لا تعني التخلي عن الحوكمة والرقابة، بل هي في صلب الموضوع، ولذلك جاء المقال السابق ليرسم الخطوط الفاصلة من خلال تحديد واضح لدور إدارة المخاطر، وقد أشرت في المقال السابق صراحة إلى أن الأخطار هي أفضل قبطان يقود السفن، فوفقا لكوسو فإن الإدارة السليمة للأخطار يمكن أن تساعد على جعل الممارسات الرشيقة أكثر نجاحا، عندما تتبنى الشركات ممارسات رشيقة.

لقد كانت إدارة الجودة تحتل وما زالت مكانة مهمة في الهياكل التنظيمية، ويصعب اليوم تقبل هيكل لا توجد فيه إدارة للتميز المؤسسي، لكن هذا الأمر لم يعد يناسب الحالة الراهنة من التقلبات، فلقد شهدنا عديدا من الأزمات السياسية التي تتحول بسرعة إلى أزمات تجارية تصل إلى سلاسل الإمداد، ثم إلى أشكال الطلب والاستهلاك وسلوك المجتمعات، نحو اليوم وبكل وضوح تخلل التجارة العالمية والعولمة، وأصبحت التكتلات الجديدة هي الأولية، وفي عالم مثل هذا فإن التصلب أمام متطلبات الجودة وثقافاتها، هو تهديد خطير، إذ إن فهم التغير الذي حدث والتغيرات التي يمكن أن تحدث والاستعداد لها أصبح هو صلب بيئة الأعمال الحديثة، نعم لا بد أن تكون هناك جهود واضحة للتميز المؤسسي والخطط الاستراتيجية لكن لم تعد القيادة إليهما، القيادة اليوم هي لإدارة المخاطر.

كيف يمكن فهم ذلك؟ الأمر شديد البساطة، فأي جهة مهما كانت صغيرة أو كبيرة لا تضع إدارة المخاطر في أولوياتها وفي صلب الهيكل التنظيمي، وقريبة جدا من الرئيس التنفيذي فإنها أبعد ما تكون عن الممارسات الرشيقة، وهي في بحر هائج متلاطم لكن القبطان لا يمسك بالدفة، وفي منظمات هذه حالها، فإن التحطم على أقرب صخرة هو أمر مفروغ منه. لكن عندما تمسك إدارة المخاطر دفة توجيه القرار فإن الأمور تتغير فهي استباقية، وترقب بحرص الطريق الذي تمضي فيه المنظمة نحو تحقيق الأهداف، فهي تحافظ على الاتجاه وهذا هو غاية الأمر، قد يتطلب الأمر تغييرات بسيطة وقد يتطلب الأمر تغييرات جوهرية، وفي حسابات الزمن، فإن إدارة المخاطر قادرة على تقييم المسار بسرعة، وهي وحدها القادرة على فهم أخطار تجاوز الحوكمة إن هي حدثت، قد تتطلب بعض الأخطار القفز على الحواجز، فلا داعي لمرور اللجان، بل الوصول إلى متخذ القرار فورا بالأخطار والقرارات والبدائل والاحتمالات، هذا هو معنى أن تكون القبطان في زمن متغير وأحداث متقلبة.

للوصول إلى الهدف المنشود يجب التأكيد أن الممارسات الرشيقة يجب أن تكون مترسخة في ثقافة المنظمة، في كل إداراتها خاصة إدارة المخاطر، فلا يكفي أن تكون المنظمة رشيقة، بينما إدارة المخاطر وغيرها من الإدارات خاصة المشاريع إدارة تقليدية متصلبة، وهذا يتطلب استقطاب أفضل الكفاءات التي تؤمن بالتغيير وتتقبله، وقد يتخلى الشخص عن أهداف وخطط تمت صناعتها ردحا من الزمن أمام تحديات جديدة وتقلبات استراتيجية، وفي سياقات مثل هذه فإن تحديد المخاطر الاستراتيجية للأهداف في بداية المشاريع، دون انتظار فريق إدارة المخاطر ليقوم بتقييم الأخطار هو جزء من الرشاقة المطلوبة. هناك مجموعة متنوعة من الأساليب التي يمكن للشركات تحسينها في هذا المجال، ومن ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي لرؤية الأنماط في البيانات والأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، وما إلى ذلك لمساعدتها على رؤية الأخطار المحتملة، ويمكن القيام بورش العمل والاستطلاعات الداخلية لتحديد الأخطار المحتملة وقد تستخدم ورش عمل البجعة السوداء أو التعطيل الاستراتيجي لمحاولة تخيل ما لا يمكن تصوره. وكمثال لذلك فقد أفرزت تجربة الحجر الصحي أثناء الوباء أن عديدا من المؤسسات لا تفهم بشكل كامل مرونة الأعمال، والقدرة على التحرك بسرعة، فعدم القدرة هذا كان هو مصدر الخطر الاستراتيجي، لقد كانت مشكلة كل الشركات التي تورطت في هذا الخطر، إنها وببساطة لم تكن تهتم بإدارة المخاطر، بل بالتميز المؤسسي، لذلك لم تدرك الخطر المقبل. إذن فمعنى الممارسات الرشيقة ليس أن يتم تعطيل الحوكمة ولا الرقابة الداخلية، بل السماح لإدارة المخاطر، وهي ضمن الخط الثاني في نماذج الحوكمة أن تتصدر المشهد، لكن يجب أن تكون إدارة المخاطر نفسها رشيقة وليست تقليدية.

 

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية