هذه هي المقالة الخامسة في سلسلة مقالات المزيج الاقتصادي للطاقة، وتقترح هذه المقالة تبنّي نموذج صناعة الطائرات النفاثة الضخمة في صناعة المفاعلات النووية لجعلها أكثر اقتصادية ومتاحة، لتقريب الفكرة أكثر لننظر للنموذج التالي: ترغب إحدى شركات الطيران التي تأسست مؤخرا في شراء سبع طائرات نفاثة من طراز بوينج 777. الإشكالية التي تواجهها الشركة هي أن إدارة الطيران المدني تشترط للموافقة على إقلاع وهبوط الطائرات في مطار المدينة، أن تتقدم الشركة بطلب الحصول على ترخيص لكل طائرة على حدة من إدارة الطيران المدني، كما تشترط حصول شركة بوينج على ترخيص لتصميم كل طائرة على حدة، إذا أُحدِث في التصميم أي تغيير، بغض النظر عن بساطته، مثل تعديل لون الإنارة داخل المقصورة. ثم بعد حصول الطائرة على ترخيص التصميم ثم ترخيص البناء، تشترط إدارة الطيران المدني على شركة بوينج بناء الطائرة في مطار المدينة، وذلك بعد الحصول على ترخيص لكل فرد من أفراد فريق تصميم وتنفيذ ومتابعة وإشراف وتدقيق ومراقبة العمل.
هل هذا السيناريو منطقي من وجهة نظرك أيها القارئ الكريم؟ الجواب قطعا لا، عندما نتحدث عن صناعة الطائرات النفاثة. ولكنه هو عينه السيناريو المتبع لبناء المفاعلات النووية. ينتج عن هذا السيناريو المتبع في بناء المفاعلات النووية تأخير كبير في إنجاز العمل وارتفاع كبير في التكلفة، خاصة من التسعينات الميلادية وحتى الآن. هناك استثناءات، معظمها من الصين، ولكن الوضع في الصين مختلف جدا ولا يتسع المجال لشرح هذه الاختلافات، ولكن ما السبب في كل هذه التعقيدات التي يواجهها تصميم وبناء المفاعلات النووية؟ قبل الجواب على هذا السؤال، دعونا نعقد مقارنة بين الطائرات النفاثة والمفاعلات النووية.
الطائرة والمفاعل جهازان عاليا التعقيد، فيهما أجهزة حساسة جدا، ويحويان عددا ضخما من القطع والتجهيزات الميكانيكية والإلكترونية، ويُشتَرَطُ لتشغيلهما (الطيران للطائرة، وتوليد الكهرباء للمفاعل) حصولهما على تراخيص عدة، لها معايير صارمة ودقيقة، ويخضعان لمراقبة وتمحيص من الجهات المنظمة لأنشطتهما. طائرة بوينج 777 تحوي أكثر من ثلاثة ملايين مكوّن (Component)، ومع ضخامة هذا العدد إلا أنه يساوي حوالي نصف عدد مكونات طائرة بوينج 747 التي تحوي حوالي ستة ملايين مكوّن، وذلك بسبب تقليل عدد المحركات من أربعة إلى اثنين ورفع كفاءة التصميم والتصنيع للطائرات الحديثة. وتحوي محطات الطاقة النووية على ملايين المكونات أيضا، منها على سبيل المثال حوالي مليون ونصف صمام (Valve). فلماذا لا تعاني صناعة الطائرات من التحديات نفسها التي تعاني منها صناعة المفاعلات؟
الجواب الحقيقي (Root cause) هو أن بناء الطائرات يكون في مصانع مُتحكّم في كل تفاصيلها، في حين أن بناء المفاعلات ليس عملية صناعية، بل هي عبارة عن بناء وتشييد ومقاولات. إذا بنينا الطائرات بالطريقة ذاته التي نبني بها المفاعلات النووية، فلن تطير طائرة، ولكن ما الذي سيحدث إذا بنينا المفاعلات بالطريقة التي نبني بها الطائرات؟
إن المفاعلات النووية المرخص لها والمبنية حاليا في العالم يستحيل بناؤها في مصانع، حيث يمكن التحكم في كل تفاصيلها والتأكد من مطابقة كل واحد منها للمعايير الدقيقة والصارمة، في بيئة مُمَكّنة، وسبب ذلك هو حجم المفاعلات الضخم. هذا الحجم الضخم كان محاولة من الصناعة النووية لزيادة كمية الطاقة المنتجة بهدف تخفيض تكلفة الكهرباء التي ينتجها المفاعل (Economy of scale)، ولكن نتج عنه ارتفاع كبير في تكلفة المفاعلات، وزيادة مفرطة في تعقيدها وصعوبة بنائها، مما جعل الحصول على تمويل لبنائها غاية في الصعوبة، فلم تُبنَ هذه المفاعلات واقعيا إلا في الدول الغنية، وفي عدد قليل منها، إن حل هذه المشكلة للدول التي ترغب في بناء مفاعلات نووية والاعتماد عليها في مزيج الطاقة، يكمن في تحويل بناء المفاعلات النووية من عملية إنشاء وتشييد ومقاولات إلى عملية تصنيع. وهذا لا يمكن للمفاعلات الكبيرة كما ذكرنا، ولكنه ممكن إذا صغرنا حجم المفاعل وجعلناه قابلا للتصنيع والتجميع في مصنع للمفاعلات. إن حجم المفاعلات الصغيرة سيجعلها قابلة للتصنيع والتجميع داخل مصنع يتمتع بكل مزايا مصانع الطائرات النفاثة، كما يمكن نقلها بالسفن والشاحنات الكبيرة إلى المواقع التي وقع عليها الاختيار. وبالنظر إلى أنها متطابقة مع بعضها البعض، فإن تكلفتها تنخفض مع ازدياد عدد المنتج منها.
ولكن لماذا لم تنتشر هذه المفاعلات الصغيرة، إذا كان ما نقوله صحيحا؟ الجواب يكمن في عدم وجود من يقود هذا المسار، مع وجود محاولات عدة من شركات أمريكية وأوروبية وآسيوية وروسية لتطوير وبناء هذه المفاعلات. إن بناء النموذج التجاري الأول (First of a kind) من أي منتج هو أمر معقد مكلف ويستنزف وقتا، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن هذه المفاعلات الصغيرة هي مستقبل الصناعة النووية. ونعتقد أن من سيتبنى هذه التقنية ويطورها وينشرها، سيكون له قصب السبق في هذه الصناعة عالية التقنية، مما سينتج عنه أيضا إيجاد أسواق تصديرية لهذه المفاعلات لأن فرص تمويلها أكبر بكثير من فرص تمويل المفاعلات الضخمة.
إن انتشار المفاعلات النووية الصغيرة يحتاج لقرار قيادي، وفرص النجاح فيه – بإذن الله – كبيرة جدا، وعوائده التقنية والعلمية والصناعية، وغيرها، يتوقع لها أن تكون كبيرة جدا.
خاص_الفابيتا