أبحاث سياسيات التعليم: لماذا نحتاجها؟ وما الطريقة الأمثل للقيام بها؟

10/12/2025 0
د. إبراهيم بن محمود بابللي

عندما عمِلتُ على تأسيس مركز الدراسات الاستراتيجية التنموية في وزارة الاقتصاد والتخطيط عام 2016م، كان الهدف منه القيام بأبحاث السياسات الاقتصادية والتنموية، مسترشدين في ذلك بنموذج معهد التنمية الكوري (Korea Development Institute). اخترنا وقتها معهد التنمية الكوري لأن نموذج عمله ركّز على أبحاث السياسات الاقتصادية لكوريا الجنوبية التي كانت تمر بتغيرات اقتصادية ومنعطفات تنموية في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وكانت أبحاث السياسات التي عمل عليها المعهد ترتبط جميعها ارتباطاً مباشراً بالتنمية الاقتصادية، كما كان لها أثرٌ واضحٌ وإيجابيٌ على النمو الاقتصادي الذي شهدته كوريا الجنوبية. 

كان من أهم مقومات نجاح معهد التنمية الكوري التي ذكرها زملاؤنا الكوريون، أنهم اعتبروا أبحاث السياسات أبحاثاً سيادية. كان المصطلح جديداً عليّ وقتها، فسألت عن المقصود بالأبحاث السيادية، فعلمت أنه مصطُلَحٌ معروفٌ، ولكنه غير مشهور، ويُقصد به الأبحاث التي لها أهمية استراتيجية وطنية، يعمل عليها خبراء واقتصاديون ومخططون ومحللون وطنيون، قد يستعينون بخبراء عالميين إن دعت الحاجة، ولكن تكون الاستعانة في نطاق ضيّق. 

أبحاث السياسات الوطنية يعتبرها الخبراء أبحاثاً سيادية، وتشمل أبحاث السياسات الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية، بالإضافة إلى أبحاث سياسات التعليم، وغيرها من القطاعات الاستراتيجية الوطنية. 

ولكن لماذا نحتاج لأبحاث في سياسات التعليم؟ 

إذا أخذنا التطور الحاصل في الذكاء الصناعي – على سبيل المثال – وتأثيره الواضح والمتزايد باضطراد على نواحي الحياة المختلفة، نجد أن التعليم من أكثر القطاعات عُرضَة للتأثر بالذكاء الصناعي، سواء فيما يتعلق بالمُتَعلّم أو الـمُعلِّم أو الإداري، وكذلك المناهج، وأساليب التعليم ووسائله ، وبيئة الفصول الدراسية، والعلاقة بين التعليم وسوق العمل، وغير ذلك مما لا يتسع المقام لحصره. 

إن التأثير المحتمل/المتوقع للذكاء الصناعي في قطاع التعليم أمرٌ يتوقعه الجميع على ما أظن، لأهميته التي لم تعد تخفى على أحد. والحاجة للقيام بأبحاث السياسات المتعلقة بالذكاء الصناعي في التعليم ستساعُد متّخذ القرار على اختيار الأمثل – قدر الاستطاعة – للتعامل مع هذا الموضوع المهم جداً والمؤثر جداً. 

ولكن هناك أيضاً موضوعات أخرى مؤثرة، بعضها أقل وضوحاً من الذكاء الصناعي، وإن لم تكن أقل أهمية، تحتاج للدراسة من منطلق أبحاث السياسات في قطاع التعليم. نذكر منها، على سبيل المثال: 

1.التعليم بالتلقين: هل التعليم التلقيني التقليدي ما يزال مناسباً لمراحل التعليم العام، أم أن أجلَهُ قد اقترب، كما ينادي بذلك الكثيرون؟ وهل التعليم الإرشادي والتدريبي (Coaching and mentoring) هو البديل الأنسب، ومن أي مرحلة دراسية/عُمُريّة؟

2.أنواع الذكاء المختلفة للطلاب: كيف يمكن جعل التعليم موائماً بين قدرات الطالب وبين ما يتعلمه وطريقة تعليمه. العملية التعليمية تركّز كثيراً على التلقين، وتناسب شريحة كبيرة من الطلاب، ولكن هناك طلاب أقل استجابة لأسلوب التلقين، وهناك طلاب يغلب عليهم الذكاء الحركي أو العاطفي، مقارنة بالذكاء التحصيلي. ما سياسة منظومة التعليم في التعامل مع أنواع الذكاء المختلفة في العملية التعليمية، خاصة مع التزايد المستمر في أعداد الطلاب؟

3.التعليم المبكر: هناك اتفاق على أهمية التعليم المبكر، ولكن هل هناك وضوح كافٍ من أي عمر نبدأ؟ هناك أبحاث ودراسات تقترح أهمية أن يبدأ الأهل (ممن يألفهم الرضيع لأنه يراهم دائماً) في الحديث مع الطفل الرضيع باستخدام لغة ظاهرها مناسب لطفل في مرحلة الدراسة، وليس لرضيع. كيف يمكن ربط سن بدء التعليم بدور الأهل في المنزل للعملية التعليمية. ما دور سياسيات التعليم في تمكين التعليم المبكر والتنسيق في ذلك مع الأسرة؟

4.تأثير التغذية على الأداء الأكاديمي للطلاب: هناك أبحاث تظهر بوضوح وجود علاقة مباشرة وطردية بين جودة التغذية وبين الأداء الأكاديمي. ومع تغيّر الأنماط الاجتماعية والسلوكية والغذائية التي أثّرت على خيارات التغذية للطلاب، وتوفر خدمات التوصيل التي جعلت أنواع الوجبات المختلفة في متناول الجميع، هناك تغيّر ملموس في تعامل الأسرة مع خيارات التغذية، بعضها إيجابي وبعضها قد لا يكون كذلك. هذه التغيرات واضحة ومعروفة للجميع، ولكن ما ليس واضحاً – فيما أحسب – أثر هذه الخيارات على الأداء الأكاديمي. فهل يمكن النظر في هذا الأمر من منطلق أبحاث سياسيات التعليم؟

5.المناهج وسوق العمل: هناك محاولات كثيرة لرفع كفاءة التعليم، خاصة الجامعي، باعتماد ما اصطلح على تسميته "المواءمة بين المناهج وسوق العمل". درست هذا الأمر كثيراً وبحثت في كيفية قيام الدول – التي نما اقتصادها في النصف الثاني من القرن العشرين – بالتعامل مع تطوير مخرجات التعليم لديها، مثل كوريا وماليزيا وسنغافورة، والبرازيل والمكسيك، وتركيا، فلم أجد أمثلة من هذه الدول – ولا من غيرها – على الاستثمار في المواءمة بين المناهج وسوق العمل. ولكن هل هذا ما يزال مناسباً، إذا نظرنا للتطورات الحاصلة في تعلم الآلة والذكاء الصناعي، وغيرها؟ 

6.اللغة الأم: ما الأثر الاقتصادي لاستخدام اللغة الأم، أو استخدام غيرها، في التعاملات وخاصة في التعليم؟ لعل هذا من أهم الموضوعات التي يمكن التعامل معها من منطلق أبحاث سياسات التعليم.

7.الخبرات المطلوبة: ما الخبرات التي تحتاجها منظومة التعليم – عالمياً وفي المملكة – الآن وفي المستقبل القريب والمتوسط؟ هل يُنظر إلى العملية التعليمية من منطلق استثماري أم اجتماعي؟ إن كان كلاهما مهم فهل هناك عددٌ كافٍ من الخبراء في اقتصاديات التعليم؟ وهل هناك عددٌ كافٍ من الخبراء في علوم النفس والاجتماع ذات العلاقة بالتعليم؟ ما سياسة منظومة التعليم للتعامل مع هذه الحاجة لدعم العملية التعليمية؟

هذه بعض الموضوعات التي أحسبها مهمة عند الحديث عن أبحاث سياسات التعليم، وأدعو القارئ الكريم للتفضل بمشاركتي مرئياته عمّا تَخُطُّه يميني عنها. 

 

خاص_الفابيتا