إن اختيار منهجية تطوير التعليم هو أحد أهم القرارات التي تواجه صنّاع سياسات التعليم، خاصة في عصرنا الحالي الذي يشهد تحولات متسارعة، وتقنيات تغيّر مفهومنا لكثير من أساليب التعلّم والعمل، وتزداد فيه حدّة المنافسة الاقتصادية المعتمدة على التقنية المتطورة باستمرار. ويفاضِلُ متخذُ القرار – بعد تشخيص دقيق لطبيعة مكونات النظام التعليمي وحاجاته الخاصة – بين الرغبة في تطوير كل/جلّ قطاع التعليم لتحقيق نهضة شاملة بتبنّي منهجية التدخل الشامل (Systemic Approach) فيعمل على تطوير كل المكونات ضمن استراتيجية موحدة، وبين منهجية التركيز المتدرج (Piecewise Approach) على عدد من التحديات الرئيسة التي – عند النجاح في تشخيصها بدقة ثم العمل على حلِّها – تؤتي أُكُلها ضمن إطار زمني واضح، مما يعطي ثقة أكبر في القدرة على مواصلة التطوير والارتقاء بأداء منظومة التعليم، ومكوناتها.
وتتجاذب القرار الخاص بالمنهجية عناصر شتّى. ولكن الرغبة في تطوير جلّ مكونات منظومة التعليم، في إطار زمنيّ واضح، وتحقيق تقدّم في مؤشرات قياس الأداء، بسبب ضعف أداء المنظومة التعليمية مقارنة بمثيلاتها، يدفع مسؤولي قطاع التعليم – في أي دولة ترغب في تطوير منظومة التعليم فيها – لمحاولة إحداثِ نهضة شاملة في قطاع التعليم، باعتماد منهجية التدخل الشامل (Systemic Approach)، مع البحث عن المكاسب السريعة (Quick Wins). إن الضغوط التي تواجه قادة قطاع التعليم لإصلاح وتطوير القطاع تُغلِّبُ النهج الشامل – في رأينا – على منهجية التدخلات المركزة المتدرجة (Piecewise Approach) التي تستهدف تقديم الحلول لعددٍ من التحديات الأكثر أهمية، وقد لا يكون النهج الشامل هو الحل الأمثل دائماً.
النهج الشامل (Systemic Approach) يتسم بطابعه التحويلي الجذري والشمولي، بحيث يعيد هندسة المنظومة التعليمية، ويستغرق وقتاً طويلاً. هذا النموذج – كما ظهر في التجربة الفنلندية – لا يقتصر على معالجة الأعراض، بل يستهدف البنية التحتية الفكرية والمادية للتعليم، ويتطلب إيجاد تناسق بين جميع مكونات القطاع، والعمل على ضمان استدامة الإصلاحات، ومعالجة أسباب التفاوتات وليس نتائجها فقط. ولكن نجاح هذا النموذج يتطلب شروطاً صارمة، مثل: إرادة سياسية غير متذبذبة، وموارد مالية ضخمة، وقدرة مؤسسية على إدارة التغيير المعقد، واختيار المسار الذي يغلب على الظن أنه صحيح، حتى لا تدعو الحاجة لتغييره بعد فترة قصيرة، مع أهمية قياس التقدم في التنفيذ بشكل دقيق، باختيار الأدوات الصحيحة التي تمكّن متخذ القرار من متابعة التطور المنشود.
في المقابل، يتميز النهج التدريجي (Piecewise Approach) بقدرته على تقديم حلول للتحديات الرئيسة والملِحّة خلال إطار زمني محدد. هذا النهج – كما في تجربة برنامج التعليم حسب المستوى في الهند – يعتمد على منهجية علمية دقيقة في تحديد نقاط التدخل ذات الأثر الأعلى، لكنه يحمل خطر إحداث تحسينات سطحية إذا لم تُعرّف التحديات الرئيسة بشكل صحيح. وبعد تحديد نقاط التدخل الأهم، تدرج مبادرات التدخل ضمن برنامج تطوير يؤدي – عند تحققها – إلى تأثير إيجابي على منظومة التعليم بشكل أوسع، وذلك ضمن رؤية استراتيجية أشمل ومتابعة دقيقة.
ولكن التجارب الناجحة لتطوير التعليم في العقد الأخير – كما في سنغافورة وكندا – قدمت منهجية وسطاً جمعت بين أفضل ما في النهجين، من حيث تبنّي رؤية شاملة طويلة المدى، مع التركيز المرحلي على تدخلات محدودة النطاق ذاتِ أثرٍ عال تسمح بمساحات للتجربة وتصحيح المسار، مع اعتماد آلية تسمح باختبار الحلول على نطاق محدود قبل تعميمها، والحفاظ على اتساقها مع الأهداف الاستراتيجية في الوقت نفسه. ونعتقد أنه في عصر التحديات التعليمية غير المسبوقة، يبرز عنصر المرونة حاسماً لنجاح تطوير التعليم، إذ يجب أن تكون أنظمة التعليم قادرة على التكيف مع المستجدات، مع الحفاظ على ثباتها في تحقيق الأهداف الأساسية. كما أن نجاح أي إصلاح يرتبط بشكل وثيق بقدرته على إشراك جميع الأطراف المعنية – من معلمين وطلاب وأسر، وقطاعات اقتصادية مؤثرة ومتأثرة – في عملية التغيير والتطوير.
ولعل أهم ما وصلت له التجارب الدولية هو عدم وجود وصفة جاهزة لتطوير التعليم وإصلاح منظومته، وأن التطوير الناجح لقطاع التعليم هو الذي ينتج عن قراءة واعية لخصوصية السياق المحلي وفهمٍ له، ويوازن بين الطموح والإمكانيات، وبين الحلول السريعة والتغيير الجذري، في إطار رؤية متكاملة تضع جودة التعلم في صلب أولوياتها وتراعي تأثير قطاع التعليم على غيره من القطاعات وتأثّره بها.
إن الحاجة لقراءة وفهم خصوصية السياق المحلي تُظهر أهمية أبحاث سياسات التعليم التي تُطوَّر من قبل خبراء وطنيين في السياسات وفي التعليم وفي الاقتصاد، بالاستعانة بالخبرات العالمية عند الحاجة، ليكون تطوير منظومة التعليم مبنياً على السياق المحلي ومنبثقاً منه.
إن التطبيق الناجح للنهج المزاوِج بين الشمولية والتدرُّج يتطلب الإجابة على السؤال التالي: كيف نستطيع تعريف التدخلات محدودة النطاق ذاتِ الأثرٍ العالي، وكيف نعرف أن لها الأولوية في العمل والتمويل؟ سنحاول الإجابة على هذا السؤال في مقالة نخصصها لشرح منهجية جدول تعريف التحديات وترتيبها (Phenomena Identification and Ranking Table)، التي نعتقد مناسبتها لتعريف التدخلات محدودة النطاق ذاتِ الأثر العالي، إذا كان قرار تطوير التعليم مبنيّ على التركيز المتدرج، أو يزاوج بين النهجين الشامل والمتدرج.
خاص_الفابيتا


