تشهد الساحة التربوية العالمية تأثيرا متزايداً للاختبارات الدولية المعيارية (مثل: اختبارات PISA وTIMSS) على القرارات التي تتخذها وزارات التعليم أو الجهات المسؤولة عن تطوير التعليم في الدول المختلفة. هذا التأثير المتزايد حوّلها إلى أداة ضغط سياسي توجه إصلاحات التعليم في كثير من الدول، إلا أن الخبرة البحثية والتطبيقية المتراكمة من دولٍ اعتمدت نتائج هذه الاختبارات لاتخاذ قرارات تعليمية، تُظهر أن الاعتماد على مؤشرات ونتائج هذه الاختبارات قد لا يكون هو الحل الأمثل لتطوير منظومة التعليم.
إنك – أيها القارئ الكريم – إذا سألت خبيراً أو مستشاراً عن دافع تطوير التعليم في المملكة العربية السعودية، أو في دولة أخرى، يغلب على الظن أن أداء الطلاب في الاختبارات الدولية المعيارية سيكون في مقدمة الدوافع. ولكن تكشف الدراسات التحليلية عن ثغرات منهجية رئيسة في اعتماد نتائج هذه الاختبارات لاتخاذ قراراتٍ لتطوير التعليم بمناحيه المختلفة، نذكر منها:
1. الإغفال المنهجي للأبعاد غير القابلة للقياس الكمي: تُهمل هذه الاختبارات مقاصد التعليم المتعلقة بتنمية الشخصية المتزنة، والهوية الثقافية والوطنية، والقيم الأخلاقية، والمهارات الإبداعية، وأنماط الذكاء المختلفة التي تؤثر على قدرة الطالب على التحصيل، وتباين الطلاب في قدراتهم على الأداء في هذه الاختبارات، وغير ذلك كثير.
2. تحويل العملية التعليمية إلى صناعة للمؤشرات: يؤدي التركيز على التصنيفات والمؤشرات إلى التركيز على أهمية المؤشر، فينتج عنه التركيز على التعليم من أجل رفع مستوى المؤشر، وكثيراً يكون هذا التركيز في غير محله.
3. اختزال تعقيد الظاهرة التعليمية في مؤشرات محدودة: تعزل هذه الاختبارات تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الأداء، مما قد يؤدي إلى توجيه مسار تطوير التعليم في سياقات ليست الأفضل بالضرورة، أو الأنسب لتحقيق هدف الجميع، وهو رفع كفاءة وأداء المنظومة التعليمية.
وإن الدراسة المتأنية لعدد من التجارب الدولية التي اعتمدت نتائج الاختبارات المعيارية دافعاً لتطوير التعليم، جاعلة منها نجم سهيل يُسترشدُ بها، تظهر محدودية النهج القائم على الاختبارات في كثير من الأحيان. نُورِدُ فيما يلي بعضاً من هذه التجارب:
· الولايات المتحدة الأمريكية: أصدر الكونغرس الأمريكي عام 2002م – بدعم من الرئيس جورج بوش – قانون عدم ترك أي طفل خلف الركب (No Child Left Behind)، الذي اعتمد اختبارات موحدة سنوية ومؤشرات لقياس الأداء، بهدف إصلاح منظومة التعليم. ولكن، أظهرت تقارير مركز أبحاث التعليم (National Education Policy Center) أن المناهج ضُيقت بشكل كبير، وزادت الفجوة بين الطلاب الأغنياء والفقراء، رغم التحسن الظاهري في بعض المؤشرات.
- · إنجلترا: أدى النظام التنافسي القائم على جداول التصنيف (League Tables) إلى التلاعب بكيفية أداء الاختبارات من بعض المدارس (Gaming the System) التي ركزت على الطلاب ذوي القدرات المتوسطة ممن لديهم قابلية للتحسين، من أجل رفع مستوى هذه المدارس في المؤشرات المعتمدة، وأهملت المتفوقين وذوي الصعوبات. وقد أوضحت تقارير مؤسسة سياسة التعليم (Education Policy Institute) هذه التصرفات وسببها.
- · اليابان: أدركت الجهات المسؤولة عن التعليم في اليابان أن نظامها ينتج أطفالاً ميكانيكيين – رغماً عن مراكزها المتقدمة في التصنيفات العالمية، فبدأت منذ العقد الماضي إصلاحاتٍ تحت شعار التعليم المريح (Yutori Kyoiku)، لتقليل الضغط والتركيز على الإبداع والتعلم الذاتي، بعد الاعتراف بضرورة مواجهة مساوئ المنافسة على الاختبارات.
- · الإمارات العربية المتحدة: أظهرت دراسة نشرتها المجلة الدولية للبحوث التربوية (International Journal of Educational Research) عام 2020م أن التركيز المكثف على تحسين نتائج الاختبارات الدولية المعيارية، مثل: PISA وTIMSS، أدى إلى تحويل الموارد نحو التدريب على الاختبارات، على حساب تطوير المهارات الحياتية والقيادية.
لا نقصد – أيها القارئ الكريم – بما أوردناه أعلاه أن الاختبارات المعيارية شرٌّ كلّه. إنها أداة، إن أحسنّا استخدامها خدمتنا في مسيرة تطوير التعليم، التي لا تتوقف أبداً، وإن لم نحسن استخدامها، فمن أهم مساوئها تحويل الانتباه عمّا ينبغي التركيز عليه.
وهذا يقودنا إلى الدافع الذي حداني لكتابة هذه السلسلة من المقالات، وهو الحاجة إلى اعتماد وتفعيل أبحاث السياسات التعليمية (Education Policy Research) خياراً استراتيجياً لتطوير المنظومة التعليمية، تكون الاختبارات المعيارية أحد مدخلاتها، وكذلك ورش العمل، والبحوث المنشورة، والتطورات الحاصلة في القطاعات المؤثرة على التعليم والمتأثرة به، والخبرات المحلية ثم العالمية، واستطلاعات الرأي. باختصار: يجب أن نبحث عن الدليل حيث كان ونستمع له وندرسه، فالحكمة ضالة المؤمن. وهذا لا يتأتّى إلا عن طريق البحث التربوي المنهجي الرصين، وخاصة أبحاث السياسات التعليمية.
ولأننا بدأنا هذه المقالة بالحديث عن الاختبارات الدولية المعيارية، نختمها بمقارنتها بالأبحاث التعليمية:
- 1. فهم الأسباب الجذرية (Root-cause analysis): قد تجاوب الاختبارات عن سؤال ماذا؟، ولكن البحث التربوي يجيب عن لماذا؟
- 2. ما تقوله الدراسات: تُظهِر الأبحاث، ومنها الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن جودة تدريب المعلمين، والاستقرار الوظيفي لهم، والمناهج المتوازنة، على سبيل المثال، تؤثر على التعلّم إيجابياً أكثر من التركيز على الاختبارات.
- 3. توفير حلول سياقية: تقدم أبحاث سياسات التعليم، بشكل خاص، والبحث التربوي، بشكل عام، حلولاً تنبع من الخصوصية المحلية. يوضح التقرير الصادر عام 2020م عن البنك الدولي نتائج "برنامج دعم إصلاح التعليم: التعليم أولاً"، الذي موّلته الحكومة الأردنية بالشراكة مع البنك الدولي، مركزاً على تحليل نتائج البرنامج وآثاره. أظهرت نتائج البرنامج الذي استهدف تطوير أداء المعلمين عبر التدريب المستند إلى المدرسة، أنه حقق تحسناً واضحاً في نتائج التعلم، وكانت تكلفته أقل من تكلفة برامج الاستعداد للاختبارات الدولية.
- 4. قياس الأثر طويل المدى: أظهرت دراسة Perry Preschool في الولايات المتحدة الأمريكية أثر السياسات التعليمية على حياة الأفراد حتى منتصف العمر، مظهرة أن الاستثمار في التعليم المبكر ذو عائد اقتصادي واجتماعي كبير، وهو ما لا يمكن لاختبارات معيارية دورية، مثل: PISA، قياسه.
نحسب أن التحدي الحقيقي الذي يواجه تطوير التعليم ليس تحسين الترتيب في التصنيفات الدولية، بل تطوير أنظمة تعليمية تعمل على تنمية الإنسان القادر على الابتكار والقيادة والمواطنة الفاعلة. إن البحث التربوي الجاد، بشكل عام، وأبحاث سياسات التعليم، بشكل خاص، وليس جداول التصنيف، ينبغي أن يكون نجم سهيل التي ترشد المسيرة لتطوير التعليم.
خاص_الفابيتا


