هل يتكيف الاقتصاد العالمي مع سخونة الفائدة المرتفعة؟

01/11/2023 0
عبد الحميد العمري

خرج الاقتصاد العالمي من حقبة انخفاض معدل الفائدة طوال أكثر من عقد زمني مضى، محملا بإجمالي ديون فاقت 235 تريليون دولار (238 في المائة إلى الناتج الإجمالي العالمي) بنهاية 2022، بلغ إجمالي ما تتحمله الحكومات منه أكثر من 91 تريليون دولار (92 في المائة إلى الناتج الإجمالي العالمي)، تضاعف منذ منتصف السبعينيات الميلادية ثلاث مرات، ويقدر أن يناهز في الفترة الراهنة سقف 97 تريليون دولار، وأن يلامس الـ98 تريليون دولار بحلول نهاية العام الجاري، وقد بلغ الدين العام الأمريكي "المسهم الأكبر" في إجمالي الديون على الحكومات نحو 33.7 تريليون دولار في 26 أكتوبر من العام الجاري، بينما وصل إجمالي الدين الخاص إلى نحو 144 تريليون دولار بنهاية 2022 (146 في المائة إلى الناتج الإجمالي العالمي)، أفضى تدني معدلات الفائدة لمستويات قريبة من الصفر طوال الفترة ما قبل بداية ارتفاعها القياسي الأخيرة، إلى تشكل كثير من العواقب الوخيمة في أغلب الاقتصادات، خصوصا في الولايات المتحدة والصين وعديد من دول منطقة اليورو، عدا تلك الأعلى خطورة في الدول الأدنى دخلا، التي واجه كثير منها خطر الإفلاس والتعثر أمام البنوك الدائنة في الخارج. وفي الولايات المتحدة، فقد تصاعدت لديها تحديات جسيمة على هذا المسار، حيث أدى تدني تكاليف الاقتراض للأسر الأمريكية إلى حصولها على قروض عقارية كبيرة جدا، وتهور كثير منها بتخطي إمكاناتهم من حيث الدخل فيما قبل 2008 ما أدى لاحقا إلى اشتعال الأزمة المالية العالمية قبل نهاية ذلك العام.

كل ذلك اختلف رأسا على عقب من بعد تحول سياسات البنوك المركزية حول العالم بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لمواجهة معدلات التضخم العالمية التي وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ مطلع الثمانينيات الميلادية، وتوجهها في إجراءات متسارعة نحو رفع معدلات الفائدة بوتيرة متشددة قبل نهاية الربع الأول 2022، وصلت بها حتى الفترة الراهنة إلى أعلى مستوياتها خلال أكثر من عقدين من الزمن، ورغم انحسار التضخم وتراجعه عن مستوياته المرتفعة التي بلغها في منتصف 2022، إلا أنه لا يزال يشكل عقبة كأداء في وجه أغلب الاقتصادات حول العالم، ما دفع بالبنوك المركزية للاحتفاظ بمعدلات فائدة مرتفعة، وأفضى في الوقت ذاته إلى تشكل مزيد من التحديات أمام الحكومات والشركات وحتى الأسر، نتيجة ارتفاع تكلفة التمويل من جانب، ومن جانب آخر صعوبة الحصول على التمويل اللازم من القطاعات التمويلية.

ازدادت تلك التحديات بوتيرة أكبر في ضوء التوقعات باستمرار ارتفاع معدلات الفائدة لأعوام مقبلة، قد تمتد حتى منتصف القرن الجاري! فوفقا للنموذج الذي صممته "بلومبيرج إيكونوميكس" الذي يحاكي أهم العوامل المحركة لمعدلات الادخار والطلب على رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة، بهدف الوقوف على الأسباب التي أدت إلى انخفاض معدلات الفائدة والتنبؤ بوجهتها مستقبلا، تمتد مجموعة البيانات في هذا النموذج لفترة تصل إلى نصف قرن، وتركز على 12 اقتصادا متقدما ومنخرطا بقوة في النظام المالي العالمي، يقدر هذا النموذج في ظل الارتفاع المستمر في مستويات الاقتراض الحكومي، وزيادة الإنفاق لمكافحة تغير المناخ وتسارع النمو من شأنها أن ترفع معدل الفائدة الطبيعي إلى 4 في المائة، الذي يعني بدوره أن يراوح العائد الاسمي للسندات لأجل عشرة أعوام حول 6 في المائة حتى منتصف القرن الجاري "يعني معدل الفائدة الطبيعي: المعدل الذي يوازن بين معدلات الادخار والاستثمار مع الحفاظ على استقرار التضخم".

تحمل هذه التطورات المختلفة إلى حد بعيد جدا عما اعتادت عليه الاقتصادات والأسواق طوال أكثر من عقد من الزمن، مزيدا من التحديات الجسيمة التي ستخلف آلاما بالغة على كاهل الأطراف كافة من حكومات وشركات وأفراد، خاصة أن إجمالي الديون المرتفع البالغ 235 تريليون دولار التي تتحملها حتى نهاية العام الماضي، ولا تزال في مسار ارتفاعها حسب ما أظهرته بيانات الهيئات الدولية في مقدمتها بنك التسويات الدولية BIS، وأن عهد الحصول على الأموال الرخيصة التي دفعت بالنمو وازدهار الأسواق قد انتهى، وضرورة تأهب الأطراف كافة لعقود من الزمن مرتفعة التكلفة من حيث التمويل، وهو ما يعني وفقا لمصممي نموذج "بلومبيرج إيكونوميكس" تلاشي القوة الدافعة لزيادة أسعار المساكن والأسهم بوتيرة دائمة التصاعد، وسقوط الشركات غير القادرة على تحقيق مكاسب تكفي لسداد التزاماتها، فوفقا لتقرير "جولدمان ساكس" ارتفع عدد الشركات غير المربحة في العقود الأخيرة إلى نحو 50 في المائة من إجمالي الشركات المدرجة في البورصات حول العالم في 2022، وأن العقود المقبلة تحمل بين طياتها مزيدا من حالات الإفلاس، ما سيستدعي اتجاه الشركات نحو إعادة توزيع رأس المال والعمالة لتحقيق أهداف أكثر كفاءة.

هذا إضافة إلى ارتفاع تكلفة فوائد الديون السيادية للحكومات، وهو الأمر الذي سيترتب عليه مزيد من التحديات التي قد تتحول إلى أزمات خانقة لعديد من الحكومات ذات الديون المرتفعة والأدنى دخلا، ولهذا بالتأكيد مخاطر كبيرة تمتد إلى زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي والأسواق المالية حول العالم، ما قد يؤدي إلى ضرورة تدخل البنوك المركزية في العالم إلى خفض الفائدة في الأجل القصير، واضطرارها لاحقا إلى رفع معدل الفائدة مجددا خشية ارتفاع التضخم مجددا، وهو ما يضاعف بوتيرة أكبر من حدة التقلبات في الأسواق والقطاعات التمويلية، ويبقيها فترة أطول في منطقة عدم اليقين، ما سيضاعف من ضبابية مستقبل الأسواق المالية وما لذلك من آثار عكسية لا يحبذها المستثمرون، وبما سيؤثر كثيرا في تقييماتهم للأسواق عموما. كما يضاعف من زخم تلك المخاطر والتحديات، ارتفاع حدة الصراعات الجيوسياسية في مختلف أنحاء العالم، وزيادة الصراعات التجارية بين الاقتصادات الكبرى، التي سيكون لتصاعدها في ظل هذه البيئة غير المستقرة للاقتصادات والأسواق حول العالم آثار عكسية مؤلمة بكل تأكيد! والسؤال الذي سيبقى قائما طوال الفترة، كيف سيتكيف الاقتصاد العالمي مع هذه التحديات والمخاطر؟! والله ولي التوفيق.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية