فرص النمو والاستقرار للاقتصاد الوطني

24/10/2023 1
عبد الحميد العمري

تمت الإشارة في المقال السابق "ارتفاع الفائدة وانكماش التضخم"، إلى أن نشاطات الاقتصاد ستتأثر عكسيا بعديد من التحديات والمخاطر خلال الأعوام القليلة المقبلة، ومنها استقرار معدل الفائدة "تكلفة التمويل" ضمن أعلى مستوياتها خلال أكثر من عقدين سابقين، حيث سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة تمويل نشاطات الاقتصاد، ما سيقلص بدوره من قدرة تلك النشاطات والقطاعات الإنتاجية على تحقيق معدلات النمو المأمولة، التي تمكن من توسعها ورفع مساهمتها في الناتج المحلي، ويحد أيضا من قدرتها على إيجاد مزيد من الوظائف وفرص العمل الموائمة لأعداد الخريجين والخريجات من قطاع التدريب والتعليم، هذا إضافة إلى التآكل المحتمل في حجمها الراهن نتيجة زيادة احتمالات تعثر عديد من المنشآت "تحديدا المتوسطة والصغيرة" تجاه البنوك الدائنة، كمشهد معتاد بالتزامن مع الارتفاع المفاجئ والمتسارع لمعدل الفائدة في أغلب الاقتصادات حول العالم، التي شهدت تسارع وتيرة ارتفاع الفائدة بقرارات من بنوكها المركزية، ويزداد الأمر صعوبة على المنشآت ذات الرافعات المالية العالية جدا.

محليا، سيكون للسياسة المالية التحفيزية التي تم الإعلان عنها في البيان التمهيدي للميزانية 2024، إضافة إلى الأدوار التنموية والاستثمارية العملاقة لصندوق الاستثمارات العامة عبر عديد من شركاته وبرامجه العملاقة، كل ذلك ستكون له أدوار بالغة الأهمية في التخفيف من حدة الآثار العكسية المحتملة قياسا على التحديات والمخاطر خلال الأعوام القليلة المقبلة، التي قد تنشأ نتيجة للمتغيرات الراهنة واتجاهاتها المستقبلية المرتبطة بارتفاع تكلفة التمويل وتقلص النمو، إن لم يتحول إلى انكماش، كما قد يحدث في عديد من الاقتصادات المتقدمة والكبرى، وما لذلك من آثار عكسية على النمو الاقتصادي والتجارة العالميين. ويكفي في هذا الجانب الإشارة إلى أن السياسة المالية المحلية متأهبة لإنفاق أكثر من 3.9 تريليون ريال خلال الفترة 2024 ـ 2026، أي بمتوسط سنوي يتجاوز 1.3 تريليون ريال طوال الفترة، هذا عدا ما سيتم ضخه من كل من صندوق الاستثمارات العامة والقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي للفترة نفسها، التي من شأنها مجتمعة أن تخفف إلى حد بعيد جدا -بمشيئة الله تعالى- من الآثار العكسية مستقبلا، في ظل التحديات والمخاطر المحتملة التي أشار إليها البيان التمهيدي للميزانية أخيرا.

حيث أوضحت وزارة المالية في بيانها التمهيدي للميزانية للعام المقبل، أن التوقعات الواسعة المتضمنة تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، واستمرار الموجة التضخمية في عديد من دول العالم، وما سيقتضيه ذلك من قيام البنوك المركزية بالمحافظة على مستويات مرتفعة لمعدلات الفائدة، ومن ضمنها الاقتصاد الوطني، كل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى حدوث تداعيات سلبية محتملة على مختلف نشاطات الاقتصاد محليا، التي قد تؤدي في مجملها إلى زيادة احتمالات ارتفاع معدلات التضخم المحلية، ما قد يتسبب في تراجع الطلب وانخفاض مؤشرات الاستهلاك المحلي، وسيحدث كل ذلك إلى جانب استمرار ارتفاع معدلات الفائدة، والتأثير السلبي المحتمل لكل ذلك في تباطؤ نمو الأنشطة الاستثمارية محليا، أخذا في الحسبان أن تشديد السياسة النقدية الذي انتهجته أغلبية البنوك المركزية حول العالم، أدى إلى رفع تكاليف الاقتراض/التمويل وتباطؤ النمو الائتماني.

لهذا رأت وزارة المالية -وفقا لبيانها التمهيدي الصادر أخيرا- أنها أمام بدء تراجع معدلات التضخم العالمية، والاستقرار النسبي لمعدلات التضخم محليا، فإنها تتوقع أن المخاطر التي قد تؤدي إلى تراجع الطلب المحلي ستأتي ضمن أدنى احتمالاتها، هذا إلى جانب مواصلة مساهمة مبادرات تعزيز دور القطاع الخاص وانعكاساتها على دعم مؤشرات الاستهلاك والاستثمار، إضافة إلى التحسن المستمر في معدلات التوظيف والتوطين، حيث بلغ حجم مساهمة القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي نحو 41 في المائة خلال 2022، مقابل العمل وفقا لمستهدف رؤية المملكة 2030 للوصول به إلى 65 في المائة، وهي العوامل في المجمل التي من شأنها -بتوفيق الله- أن تؤثر إيجابيا وتسهم في الحد من الآثار المتحملة لتلك المخاطر في نمو الناتج المحلي غير النفطي. هذا إضافة إلى ما أسهم به قرار المملكة بتمديد الخفض الطوعي لإنتاجها من النفط حتى نهاية العام الجاري في تعزيز الجهود الاحترازية التي تبذلها دول "أوبك+" بهدف دعم استقرار أسواق البترول العالمية وسط التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، يتوقع أن يؤثر هذا القرار إيجابيا في استقرار أسعار النفط في الأجل المتوسط، والتأكيد أيضا على ما يتمتع به الاقتصاد الوطني من وضع مالي متين، يدعمه توافر احتياطيات حكومية قوية، ومستويات دين عام مستدامة، ستمكن من احتواء أي أزمات محتملة في المستقبل.

رغم الضبابية التي تغلف أغلب مسارات الاقتصاد والأسواق عالميا، التي ازدادت غموضا عقب الاضطرابات الجيوسياسية الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه لا بد من التأكيد على المقومات والممكنات العالية التي تمتلكها المملكة خلال الفترة الراهنة، التي وفرت وتوفر مساحة أكبر من المرونة الاقتصادية والمالية اللازمة، للوقوف في وجه أي احتمالات عكسية غير مواتية قد تؤثر سلبا في الاستقرار والنمو، وهي الركيزة التي يجب ألا تغيب عن المشهد الاقتصادي محليا، ولا عن تقديرات ومسارات النمو الاقتصادي عموما، وللقطاع الخاص على وجه الخصوص، التي من شأنها -بتوفيق الله- أن تسهم في المحافظة على وتيرة النمو المستدام، ومنح القطاع الخاص القدرة على توفير القدر الكافي من الوظائف للموارد البشرية المواطنة، والاستمرار في طريق زيادة توطين الوظائف وخفض معدل البطالة، ومن ثم المحافظة على مستوى المعيشة المناسب لأفراد المجتمع، الذي سيؤدي بدوره إلى تعزيز استقرار الطلب الاستهلاكي، بل توفير القدرة على نموه بالمعدلات التي تخدم وتعزز من النمو الاقتصادي محليا، والتأكيد هنا على أن من يتمتع بتلك الامتيازات والممكنات -على رأسها المملكة-خلال الفترة الراهنة من عمر الاقتصاد العالمي، تظل أعداده قليلة جدا على مستوى دول العالم.

 

 

نقلا عن الاقتصادية