عندما انتشرت الساعات الذكية قبل أقل من 10 سنوات أفردت صحيفة «الإيكونيميست» تقريراً أوضحت فيه الفوارق بين الساعات الذكية والساعات التقليدية، وخلص التقرير إلى أن الساعات التقليدية في خطر بسبب افتقارها للابتكار، ولأن سوق الساعات الذكية واعدة جداً بما يمكن أن تقدمه الساعات الذكية من مزايا مقابل مثيلاتها التقليدية. وفي عام 2019، صدر تقرير يوضح أن مبيعات ساعات (أبل) وحدها تجاوزت 31 مليون ساعة، مقابل 21 مليون ساعة لجميع الساعات السويسرية التقليدية. ولكن بعد هذه السنوات، لا تزال الساعات التقليدية جذابة، بل إن حجم سوقها ازداد، وأصبحت صناعة مزدهرة، ووصل حجم سوقها إلى 75 مليار دولار، نحو ثُلثه من الساعات المستعملة. فكيف استطاعت الساعات التقليدية - لا سيما الفاخرة منها - الحفاظ على مكانتها؟ وما الذي أدى إلى ازدهارها خلال السنوات الأخيرة الماضية؟
بداية، اتضح خلال هذه السنوات أن الساعة الذكية، والساعة التقليدية - والفاخرة تحديداً - منتجان مختلفان تماماً، هذا الاختلاف جاء من وجهة نظر المستهلك الذي لا يرى في الساعة الذكية أي تفرّد، فهي تُنتج على نطاق واسع، ومتوافرة في الأسواق، وتشبه الهواتف الذكية في أن عمرها الافتراضي لا يزيد على سنوات قليلة، وعلى مستوى المظهر لم ترتقِ هذه الساعات إلى مستوى الساعات التقليدية الفاخرة. بالمقابل، فإن الساعات التقليدية الفاخرة – والتي تعد شكلاً من أشكال الجواهر - فيها الكثير من التميز، وهي تعطي إحساساً بالتفرد لمالكها لا يحصل عليه صاحب الساعة الذكية.
وحتى جائحة «كورونا»، استمرت الساعات الفاخرة بالنمو بالرتم المعتاد دون تغيير لافت، إلا أن جائحة «كورونا» غيّرت في هذه الصناعة لأسباب كثيرة، أولها أنه وحتى وقت الجائحة، لم تزد نسبة المبيعات الإلكترونية للساعات الذكية على 5 في المائة، بسبب أن معظم مشتري هذه الساعات يفضلون تجربة الشراء من متاجر التجزئة بما يصاحب ذلك من «بريستيج»، وهو أمر تتشارك فيه السلع الفاخرة بأنواعها، إلا أن الجائحة وضعت باعة هذه الساعات أمام خيارين، إما البيع الإلكتروني، وإما البقاء دون مبيعات حتى تنتهي جائحة لم تتضح آنذاك ملامحها. عندها قررت الكثير من الشركات بيع الساعات الفاخرة عن طريق مواقع إلكترونية صُمم الكثير منها على عجل، ونتيجة هذا القرار كانت مذهلة.
فمع كثافة استخدام العالم وسائل التواصل الاجتماعي إبان الجائحة، وبسبب حب مشاهير هذه الوسائل للعلامات التجارية الفاخرة، بدأ الناس في الانجذاب إلى الساعات الفاخرة، وازدادت مبيعات هذه الساعات بشكل جنوني حتى خلت المتاجر الإلكترونية من الساعات. حينها بدأ التغيير الحقيقي في سوق الساعات الفاخرة، فازدهرت سوق الساعات المستعملة التي وصل حجمها عام 2021 إلى نحو 22 مليار دولار (أي ثُلث حجم سوق الساعات الفاخرة)، وزاد سعر الساعات المستعملة على أسعار الساعات الجديدة حتى وصلت أسعار بعض الساعات المستعملة إلى 3 أضعاف أسعار التجزئة! ولأن هذه السوق ازدهرت، فقد ظهرت شركات ناشئة عُنيت بالتجارة الإلكترونية للساعات، وقد نما بعضها، وطُرح للاكتتاب الأولي لاحقاً. وواكبت «رولكس» هذه الموجة، فأصدرت برنامجاً يُمكّن أصحاب الساعات من استخراج شهادات أصل لساعاتهم المستعملة قبل بيعها في المتاجر الإلكترونية، وشهادة الأصل هذه هي ما تعطي للساعة قيمتها المادية.
وعندما لاحظت بعض الشركات المصنّعة للساعات الفاخرة ارتفاع أسعار الساعات المستعملة إلى أضعاف أسعار مثيلاتها الجديدة، أرادت الاستفادة من ذلك. ولعل مثال شركة «Patek Philippe» هو الأشهر لهذا الاستغلال، حيث قامت الشركة بسحب بعض ساعاتها الأكثر مبيعاً من الأسواق، وذلك لخلق شحٍ في السوق، ومن ثم نتج عن ذلك ارتفاع في أسعار ساعاتها المستعملة، لتعود بعد ذلك وتطرح ساعاتها مجدداً في الأسواق بضعف أسعارها. وقد نفت حينها «رولكس» اتباع استراتيجية خلق الشح في الأسواق. وكان الرد أن صناعة الساعات الفاخرة لها خصائص تبرر ارتفاع الأسعار، منها أن هذه الساعات تُصنع يدوياً، وقد تستغرق صناعة الساعة الواحدة فترة تصل إلى عام كامل. كما أن صُنّاع هذه الساعات يحتاجون لفترة تدريب تتراوح ما بين عامٍ إلى عامين؛ ولذلك فإن زيادة الإنتاج استجابة لارتفاع الطلب قد لا تكون أمراً سهلاً في صناعة الساعات الفاخرة. وقد استفادت سويسرا كثيراً من انتعاش سوق الساعات الفاخرة، حيث وصلت صادراتها من الساعات إلى 27 مليار دولار عام 2022، مقابل 24 ملياراً عام 2021 و18.5 مليار في العام السابق له.
لقد توقّع الكثيرون أن تنتهي الساعات الفاخرة مع ظهور الساعات الذكية، لكن حجم صناعة الساعات الفاخرة قد يزداد من 75 ملياراً حالياً إلى أكثر من 100 مليار خلال السنوات الثلاث المقبلة! والغريب أن الطلب على هذه الساعات لم يأتِ من الجيل القديم، بل كان معظمه من جيل «زد» الذي أصبح توّاقاً لشراء ساعة تكبره بالعمر بـ20 أو 30 عاماً. وبسبب هذه الرغبات زادت الساعات المستعملة المعروضة للبيع لضعفين على الأقل في السنة الأخيرة، لتؤكد أن العامل الأهم في أي سوق هو رغبة العميل التي قد يكون من الصعب توقعها في الكثير من الأحيان.
نقلا عن الشرق الأوسط