هل يتم تداول العملات المشفرة كالأسهم؟

17/09/2023 3
د. فهد الحويماني

منذ انطلاق العملات المشفرة 2009 والنقاش قائم حول مدى إمكانية تداول العملات المشفرة من خلال الأسواق المالية كالأسهم، ولا ننسى أن أحد أسباب ارتفاع أسعارها في الأعوام الماضية هو الاعتقاد أنه سيصبح بالإمكان التعامل بها بيسر وسهولة، وستكون مجرد وسيلة استثمارية كغيرها من الأصول المالية، ولكن هنا مكمن الخلل والتحديات في سبيل تحقيق ذلك، هل العملات المشفرة أوراق مالية كالأسهم؟ أم أنها سلع كالذهب والنفط وغير ذلك من أصول ملموسة؟ أم أنها عملات ورقية كالدولار واليورو والين؟، إلى هذا اليوم لا يوجد جواب واحد متفق عليه عن هذه التساؤلات، فهناك دول تعدها أوراقا مالية، وبذلك يجب أن تخضع لضوابط عمل أسواق الأسهم، ولا يسمح بتداولها إلا من خلال أسواق مالية نظامية كالأسهم، وهذا هو الموقف في أمريكا كما تراه هيئة الأسواق والأوراق المالية. ولكن تطبيق ذلك ليس بالأمر الهين، لأن من الصعب حاليا الالتزام بضوابط عمل الأوراق المالية وتطبيق شروطها وحوكمتها وضمان عدم التلاعب بها وخلوها من التضليل والإضرار بمصالح المتعاملين، لذا لا يمكن حتى الآن تقديم ما يرضي هيئة الأوراق المالية ويسمح بإنشاء صناديق متداولة للتعامل الفوري بالعملات المشفرة.

رغم موقف هيئة الأوراق المالية المتشدد تجاه العملات المشفرة، إلا أن هيئة أخرى أجازت التعامل بالعملات المشفرة من خلال سوق مالية ألا وهي سوق العقود المستقبلية، فأصبح بالإمكان بيع وشراء عقود بيتكوين من خلال بورصة شيكاغو للسلع المستقبلية تماما كما يتم تداول الذهب والنفط والمنتجات الزراعية. سبب السماح بذلك يعود إلى عد العملات المشفرة سلعة، وبالتالي لا توجد هناك أي إشكالية في تقديمها كعقود مستقبلية، كيف لا وهناك عقود مستقبلية لتداول الكهرباء وحرارة الجو وشهادات أرصدة الكربون.

على سبيل المثال، يمكن شراء عقود بيتكوين لأي من الأشهر المقبلة حتى ديسمبر 2024، والعقد الواحد يحتوي على خمس عملات بيتكوين، أي إن قيمة العقد الواحد بسعر اليوم نحو 133 ألف دولار، ولكن كما هي طبيعة العقود المستقبلية يتم دفع جزء من هذا المبلغ ضمانا. رغم أن نسب الضمان في العقود المستقبلية عادة لا تتجاوز 10 في المائة من قيمة العقد، إلا أن عقود بيتكوين، بسبب خطورتها العالية، تتطلب ضمانا بمقدار 50 في المائة من قيمة العقد. رغم ذلك فهذه العقود تعد وسيلة نظامية للاستفادة من تحرك أسعار بيتكوين بتكلفة أقل من الشراء المباشر، ودون الحاجة إلى فتح حسابات في منصات عملات مشفرة، ولا التعامل بالمحافظ الرقمية وأخطار فقدان مفاتيح التشفير الخاصة بها.

وجود عقود بيتكوين في هذه السوق النظامية منح العملات المشفرة نوعا من المصداقية، ولكن ذلك غير كاف، فالمستثمرون في العملات المشفرة يطمحون أن يتم إدراجها في أسواق الأسهم، وهذا تحقق جزئيا من خلال طرح عدة صناديق متداولة خاصة بعملة بيتكوين و"إيثر" ولكنها ليست مبنية على العملة ذاتها، بل هي صناديق أصولها مكونة من العقود المستقبلية لهذه العملة، وليست العملة بذاتها كما هو مطلوب. أي إن المطلوب أن يكون هناك صندوق متداول مثل صندوق الذهب المتداول الذي يمتلك قوالب ذهب حقيقية، يقوم بتقسيمها إلى أسهم يتم تداولها في سوق الأسهم، حيث يوجد هناك صندوق مشهور في أمريكا يعمل على هذه الأسس، وكذلك هنا في المملكة يوجد صندوق خاص بالذهب يعمل على النموذج نفسه. ولكن حتى الآن لا يوجد صندوق متداول مبني على الامتلاك المباشر للعملات المشفرة.

لماذا تسمح هيئة الأوراق المالية الأمريكية بصندوق متداول للذهب ولا تسمح بصندوق مماثل لعملة بيتكوين، ولا سيما أن تلك الهيئة الأخرى -هيئة العقود المستقبلية- عدت بيتكوين سلعة، وسمحت بتداولها كباقي السلع؟ مشكلة هيئة الأوراق المالية أنه بغض النظر عن كون بيتكوين سلعة أم ورقة مالية أم عملة نقدية فهي يجب أن تخضع لضوابط عمل الأوراق المالية إن كانت ستسمح بتداولها من خلال أي من أسواق الأسهم. أحد أبرز التحديات في ذلك يعود لمشكلة إيجاد أمين حفظ للعملات المشفرة، فبينما هناك مؤسسات مالية كبرى تعمل كأمين حفظ للأسهم والسندات والذهب لا يوجد حاليا أمين حفظ يفي بمتطلبات هيئة الأوراق المالية، بالذات في مسألة تحديد هوية المالك كون العملات المشفرة تعتمد على السرية واللامركزية في نموذج عملها.

هناك عدد من المؤسسات المالية الكبرى ممن تقدمت بطلب السماح بإدراج صناديق متداولة للعملات المشفرة، كـ "بلاك روك" و"فيديليتي" و"إنفيسكو" وغيرها، ولكن لا تزال هيئة الأوراق المالية مصرة على معاملة هذه العملات تماما كالأوراق المالية، بل إنها تطارد بورصات العملات، مثل "كوين بيس" و"بينانس" وغيرها وتمنعها من إتاحة تداول العملات لعامة الناس، لذا نجد أن هذه المنصات تعمل كمقدمي خدمات أصول رقمية وليس كأوراق مالية قابلة للتداول.

ليس بالأمر المستبعد تماما، ولكن من الصعب جدا أن تقوم هيئة الأوراق المالية الأمريكية بالسماح بإدراج صناديق متداولة للعملات المشفرة، كون ذلك يعني بالضرورة قيام هذه الصناديق بجمع أموال المستثمرين وتحويلها إلى عملة مشفرة، ومن ثم السماح بتحويلها من أسهم إلى عملات على الفور في أي وقت من الأوقات، وذلك إلى أن يتم تطوير سوق عملات مشفرة فورية من خلال مؤسسات مالية معروفة وبأسعار عادلة خالية من التلاعب والتدليس، مع ضمان سلامة ملكية تلك العملات وضمان انتقال الملكية من طرف لآخر. كثير من المتعاملين في العملات المشفرة يعتقدون أن مثل هذه الضوابط ستمنح العملات المشفرة المصداقية اللازمة للانطلاق بها نحو المستقبل لتكون أدوات استثمارية نظامية حقيقية.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية