أنهى الاقتصاد الوطني الربع الأول من العام الجاري على معدل نمو حقيقي 3.8 في المائة، مدفوعا بالنمو الحقيقي للقطاع النفطي بمعدل 5.3 في المائة، الذي حافظ على نموه للربع التاسع على التوالي بفضل استمرار وتيرة النمو في القطاع الخاص، كان قد سجل نموا سنويا وصل معدله إلى 5.2 في المائة خلال الفترة نفسها. وفي الوقت الذي جاء النمو الاقتصادي المتحقق خلال الفترة، فقد تحقق بأعلى من معدل التضخم البالغ 3.0 في المائة للفترة نفسها، وجاء أيضا أفضل من كثير من الاقتصادات حول العام، خلال مرحلة من أكثر المراحل اكتظاظا بالتحديات والاضطرابات الدولية التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وفي ظل الإجراءات والتدابير المتسارعة التي قامت ولا تزال تقوم بها البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة، وزيادة التشديد النقدي.
على مستوى النشاطات الرئيسة للاقتصاد، أسهم نشاط الخدمات كعادته أثناء الاضطرابات الاقتصادية العالمية في دعم النمو الاقتصادي بدرجة أكبر مقارنة بالزراعة والصناعة، حيث سجل النشاط -المكون من: تجارة الجملة والمطاعم والفنادق، والنقل والاتصالات والتخزين، وخدمات المال والتأمين والعقارات وخدمات الأعمال، وخدمات جماعية وشخصية، ومنتجي الخدمات الحكومية- نموا سنويا حقيقيا وصل إلى 6.2 في المائة، وارتفعت مساهمته بالأرقام الثابتة إلى 43.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويعد نشاط الخدمات الأعلى مساهمة في فرص العمل عموما، والأعلى في استيعاب العمالة المواطنة في القطاع الخاص بأعلى من 60 في المائة من الإجمالي، إضافة إلى أنه الأعلى في معدل التوطين مقارنة ببقية النشاطات الرئيسة بنسبة توطين تجاوزت 26.2 في المائة، ما يشير إلى الأهمية والوزن النسبي الكبير للنشاط في الاقتصاد الوطني وفي سوق العمل المحلية، ولكونه النشاط الاقتصادي الأبرز ممثلا في النشاطات الفرعية المكونة له، الموعودة بكثير من المحفزات الحكومية تحت مظلة رؤية المملكة 2030، التي تستهدف في الأجل الطويل الاندفاع بمعدل مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى أعلى من مستوياته الراهنة، والاقتراب من معدلات مساهمة النشاط في الاقتصادات المتقدمة بين 70 وأعلى من 80 في المائة، ولما يحمله النشاط من مزايا عديدة لعل من أبرزها، انخفاض تأثره بالأزمات الخارجية مقارنة ببقية النشاطات، ولكونه يعتمد بدرجة أكبر على الحراك الاقتصادي المحلي، وهو ما يبرز أداءه المتفوق مقارنة ببقية النشاطات "الصناعة، الزراعة" أثناء الاضطرابات التي يشهدها الاقتصاد العالمي.
كما كان من أهم ما حفز نشاط الخدمات للنمو بمعدلات أعلى من بقية نشاطات الاقتصاد، ما شهده النشاط من ارتفاع في مجالات السياحة والترفيه والفعاليات الاجتماعية الواسعة بالمشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص طوال فترة الربع الأول من العام الجاري، ما أسهم في الدفع بزيادة وتيرة أداء مختلف المكونات الفرعية للنشاط، وعززت بدورها من مكاسب الاقتصاد الوطني في تلك المجالات، وانتقل أثرها إلى زيادة معدلات توظيف الموارد البشرية المواطنة، التي سجلت ارتفاعا سنويا بنحو 8.8 في المائة خلال الربع الأول من العام الجاري. ويعزى الرافد الأكبر لهذا النمو في فرص العمل إلى نشاط الخدمات، نظير ما تقدم من مزايا عديدة يتمتع بها مقارنة بنشاطي الصناعة والزراعة، ولما يتمتع به من مرونة أكبر على مستوى ضخ الاستثمارات وإيجاد الوظائف.
في المقابل، تباطأ النمو الحقيقي لنشاط الصناعة خلال الربع الأول من العام الجاري إلى 1.9 في المائة، متأثرا بتراجع القطاعات النفطية منه، في حين سجل نموا حقيقيا للفترة نفسها باستثناء القطاع النفطي منه بنحو 3.2 في المائة، واستقرت مساهمة النشاط عند 53.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي "مساهمة النشاط الصناعي دون النفط 14.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي"، وتباطأ أيضا نمو النشاط الزراعي إلى 2.9 في المائة "مساهمة النشاط الزراعي 2.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي"، ولا تعني زيادة التركيز على نشاط الخدمات في هذا المقام، إهمال الاهتمام بنشاطي الصناعة والزراعة، اللذين بالفعل يحظيان بالاهتمام اللازم، وما إقرار الاستراتيجيات المتعلقة بهما إلا دليل واضح على هذه المنهجية الكفؤة، المرتبطة بدرجة رئيسة ببرامج ومبادرات رؤية المملكة 2030، لكن بالنسبة إلى نشاط الخدمات ونظرا إلى ما تتسم به نشاطاته الفرعية من اختلافات حسب مجالاتها، وحسب اختلاف مرجعيتها للأجهزة الحكومية الإشرافية، تجد أن نشاطات تحظى بالدعم اللازم، وأخرى لا تتمتع بالقدر ذاته، ما يشير إلى أهمية بلورة البرامج والاستراتيجيات الفرعية، حسب كل نشاط فرعي، والجهة التنفيذية الخاضع لها في منظومة متكاملة أكبر، سيدفع وجودها والعمل بها إلى تحقيق مزيد من كفاءة تلك الأنشطة، ويقلص من درجات المخاطر التي تواجه منشآت عديدة تعمل في هذا النشاط الخدمي.
على الرغم مما تحظى به النشاطات الفرعية في الخدمات من مزايا عديدة ومرونة، إلا أنه في الوقت ذاته يقترن كثير من تلك الأنشطة بمخاطر أكبر من غيرها في نشاطات ومجالات أخرى، التي تقتضي أخذها في الحسبان، خاصة أن جزءا من تلك المخاطر تصل حدتها إلى التسبب في إغلاق النشاط وتوقفه نهائيا، عدا ما قد يترتب عليه من تحمل خسائر تتجاوز رأس المال، وتصل إلى تحمل أعباء سداد الالتزامات التمويلية -إن وجدت- المترتبة عليها، ولعل أكثر الأمثلة حضورا في هذا المقام، ما شهده قطاعا المطاعم والكافيهات من إغلاقات خلال الفترة الأخيرة -مثالا لا حصرا-، كان من أبرز الأسباب التي وقفت خلف تعثرها التسرع وعدم دراسة أوضاع السوق واختلاف أذواق المستهلكين والمواقع الجغرافية بالدرجة الكافية، وتدني الانتباه أو الاهتمام بدرجة تشبع أجزاء واسعة من القطاعين في المدن والمواقع التي تم اختيارها! لأجل تلك الاعتبارات وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره هنا، تأتي أهمية إيجاد استراتيجية شاملة ومتكاملة للخدمات، تستهدف تحفيز جميع النشاطات الفرعية، وتوفر لها مزيدا من التنظيم والتسهيلات اللازمة، خاصة النشاطات الفرعية التي تفتقر أساسا إلى وجود برامج ومبادرات تسهم في تحفيزها وتنميتها وتوسعها ونموها، إضافة إلى توفير سبل وبدائل حمايتها من أي مخاطر محتملة.
نقلا عن الاقتصادية