كنت قد أشرت في مقالات سابقة إلى أن قدرة البشر على التنبؤ بالمستقبل قد تضاءلت بشكل كبير، حتى إن من الصعب بناء توقعات لأكثر من شهرين، وتواجه الأسواق المالية تقلبات شديدة، بفعل التغيرات الجيوسياسية، وتقلبات أسعار النفط، وعدم وضوح السياسات النقدية في البنوك المركزية العالمية، فلا التضخم تراجع ولا هناك سقف معلن لأسعار الفائدة، خاصة أن مستويات الإنتاج العالمي لم تتحسن بشكل يسمح بمقابلة الطلب، بل ما يحدث هو العكس حسب تقارير نشرتها "الاقتصادية" فالمصانع تعدل إنتاجها بالتخفيض لمواجهة انخفاض الطلب وذلك للمحافظة على مستويات الأسعار، وهذا يعني أن التضخم سيبقى طويلا ما لم يحدث انكماش خطير، لست معنيا في هذا المقال بوصف الظاهرة الاقتصادية العالمية الراهنة، بل فقط بوصف مشكلة القوائم المالية الحالية في هذه العاصفة، وذلك لقلة الحديث عنها وكأن المحاسبة تعيش في عالم آخر، ولأسف أقول: إن المحاسبين ومن في لفيفهم يعيشون عزلة حقيقية خلف معايير قد لا تنجيهم من لوم عظيم، فالعالم يدرك أننا نواجه تحديا كبيرا غير مسبوق، فقد وضع المنتدى الاقتصادي العالمي أزمة الطاقة والغذاء وارتفاع تكلفة المعيشة واستدامة الديون السيادية، من الأزمات الحالية التي ستعقد الأزمات طويلة الأجل ومنها الأزمات المناخية، ولقد شهدنا كيف انهارت ثلاثة بنوك في لمح البصر، وتعرضت شركات المراجعة إلى عقوبات تاريخية وقياسية، وهناك مزيد في المقبل، ومع ذلك فالمهنة لا تحرك ساكنا، ولا حتى منتدى حقيقي لمواجهة هذه التحديات ومناقشتها بصدق، وعندما أقول المهنية فلست أحصرها في المملكة بل في العالم أجمع.
لطالما ادعت المحاسبة المالية خصوصا أنها تقدم معلومات مفيدة لأصحاب القرار، رغم أن هذه المعلومات متحجرة في قوائم ذات أعداد تسمى بالقوائم المالية ذات الغرض العام، ومعنى الغرض العام أن تكون مفيدة لكل من المستثمر الحالي والمرتقب الجهات المنظمة والموظفين وغير ذلك ممن يهتمون بالمعلومات حتى المنافسون، ولأن طبيعة القرار الذي يتم اتخاذه من كل هذه الأجنحة مختلف، فقد جاءت القوائم المالية مختلفة، بين المركز المالي والدخل والتدفق النقدي، والتغيرات في حقوق الملكية. تدعي المحاسبة أيضا أنها تقدم معلومات حول مستقبل المنشأة لكن المعلومات التي في القوائم المالية متحجرة في الماضي، حتى لو كنا نستخدم القيمة العادلة.
مشكلة المحاسبة أنها خليط تعتمد المنهج الطبيعي فقط، وذلك وفقا لتقسيم أشبنجلر للوجود، لكن المنهج الطبيعي يظهر فقط في المركز المالي أو لحظة الإقرار بالمركز المالي، فالأصول والحقوق على تلك الأصول، هي صورة الطبيعة كما هي، وهذا يتضمن مفهوم الثبات والمكان، أي: إن ذكر هذه الأرقام يعبر عن أشياء موجودة في مكان، وإنها حقائق ترتبط بقوانين وقياسات كمية عددية ونعتقد أن هذه الحقائق ستتكرر باطراد في المستقبل بلا إبداع ولا حرية في وصف هذه الطبيعة كما ستكون عليه في المستقبل. القوائم المالية الأخرى ترفع شعار الأداء التاريخي وأنها تقيس الأداء عن سنة كاملة، وهذا الادعاء غير صحيح، ذلك أن التاريخ يتطلب وصفا لوقائع "كما يقول أشبنجلر"، والتعبير عنها كيفي وليس كميا، وهذا الوصف للوقائع يتضمن الإبداع والحرية ولا يضمن التكرار والاطراد، فالمحاسبة وفقا لذلك تفشل في قوائمها المالية غير المركز المالي في تقديم معلومات علمية، فلا وصفت طبيعة الوجود ولا وقائع التاريخ، بل تفقد أي قيمة علمية حقيقية. فرقم مثل الدخل الشامل مثلا، ليس تعبيرا عن طبيعة الموجود، لا هو وصف لواقعة تاريخية، مع الأسف لا هذا ولا ذاك، فهو مجرد تعبير رقمي لعلاقات بين موجودات، ومع الأسف لم يكن لهذا الرقم القدرة على إثبات أن هذه العلاقات صادقة أو تتصف بالاطراد والتكرار، بمعنى أنها علاقات تجريبية بين علة ومعلول. وإذا كان الحال كذلك فما هي القيمة العلمية لهذا الرقم الذي لم يعبر عن حقيقة الوجود ولا وصف وقائع تاريخية. ومع ذلك تعتقد المحاسبة أنها تقدم من خلاله معلومات مفيدة لشريحة واسعة من أصحاب القرار الذين يتخذون قرارات تتصف بالتاريخية "أي إنها دراسة الوقائع الجارية وفهمها والإبداع والحرية في القرار وليس الالتزام بمبدأ وقانون طبيعي صرف".
إذا كانت هذه هي الحال فإن المحاسبة في اقتصاد عاصف ستفقد أهميتها تماما، ومعها كل الخدمات التي ترتبط بها وعلى رأسها المراجعة الخارجية، فما هي الفائدة من مهنة تقدم الثقة لمعلومات غير مفيدة ابتداء، في عالم قلق بشأن التقلبات المناخية والسياسية وتغيرات أسعار الفائدة فإن الرابحين اليوم قد يكونون غدا من الخاسرين، والأصول الضخمة التي بيد مؤسسة قد تكون أزمتها في المستقبل، وعلى المحاسبة أن تتجاوز الطبيعة في وصفها الأحداث وتعبر عن التاريخ، التاريخ في شكل وقائع وأحداث، وهذا لا يتحقق ما لم تحدث ثورة كاملة على المعايير القائمة اليوم، على الإطار الفكري، على شكل القوائم التي لا تقرأ إلا من خلال الـ "بي دي إف"، في زمن أصبحت الحياة إلكترونية تتغير في لحظة، المحاسبة يجب أن تتحرر من عقالها وإلا فلن تكون مفيدة أبدا في دعم القرار، بل فقط في إثبات الحقوق "أي وصف الطبيعة الجامدة فقط".
نقلا عن الاقتصادية