آثار انكماش التمويل العقاري

31/05/2023 11
عبد الحميد العمري

معلوم الدور الذي يلعبه التغير في الائتمان/التمويل البنكي باختلاف أنواعه ارتفاعا أو انخفاضا في الاقتصادات والأسواق عموما، الذي يؤدي -حال ارتفاعه بمعدلات قياسية- إلى تشكل موجات تضخمية في فترات لاحقة، والعكس صحيح في حال انكماشه تتجه الأسعار نحو التباطؤ، ثم التراجع والانكماش. لهذا تعمل البنوك المركزية على التحكم في معدلات الفائدة رفعا وخفضا، وفق تلك المعطيات، تماما بما يتفق مع السياسات الراهنة لتلك البنوك بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ نهاية الربع الأول من العام الماضي، وما زالت تتمسك البنوك المركزية بتلك السياسات المتشددة حتى تاريخه عبر رفع معدلات الفائدة، التي ينجم عنها انكماش في حجم الائتمان، وتوافر السيولة في الاقتصادات والأسواق، بما سيؤدي إلى كبح جماح التضخم وإعادته إلى المستويات المقبولة 2.0 في المائة.

محليا، شهدت الفترة 2019 - 2022 ارتفاعا كبيرا في التمويل العقاري الممنوح للأفراد، مدعوما بانخفاض معدل الفائدة وتوافر الدعم السكني للمقترضين، ما نتج عنه ارتفاع قياسي خلال الفترة برصيد تلك القروض بنحو 273 في المائة، وتدفق نحو 519.3 مليار ريال في القطاع السكني وحيدا، انعكست تلك الارتفاعات القياسية في حجم الائتمان العقاري خلال الفترة بعديد من النتائج، كان من أبرزها ارتفاع نشاط القطاع السكني بمعدلات قياسية ناهزت 92 في المائة، اقترنت بتسارع وتيرة الارتفاع في مستويات أسعار مختلف الأصول العقارية بعد موجة انخفاضها خلال الفترة 2016 - 2018، لتسجل الأسعار مستويات مرتفعة فاقت في نهاية موجتها القدرة الشرائية والائتمانية لأغلبية المستهلكين، وهي القصة المكررة لما حدث لسوق الأسهم المحلية خلال الفترة 2003 - 2006 التي شهدت ارتفاع الائتمان البنكي للأفراد بنحو 147 في المائة، وارتفاع المؤشر العام للسوق بأكثر من 730 في المائة خلال الفترة نفسها، اقترنت بتدني معدل الفائدة في أغلب تلك الفترة لما دون 2.0 في المائة، سرعان ما ارتفعت خلال الأشهر التي سبقت التصحيح الكبير للسوق بنحو 250 نقطة أساس، ما انتهى بتراجع المؤشر العام للسوق حتى نهاية 2006 بنحو 66 في المائة، متزامنا مع توقف الائتمان البنكي للأفراد عن النمو خلال تلك الفترة بما لم يتجاوز سقف 0.1 في المائة.

بالعودة إلى السوق العقارية، تحديدا إلى الفترة من بعد الربع الأول من العام الماضي، التي شهدت انطلاق أسرع وتيرة لارتفاع معدلات الفائدة ومن ضمنها تكلفة الرهن العقاري، بلغ مداها منذ أول قرار برفعها حتى آخر قرار إلى 450 نقطة أساس، ويزداد اصطفاف العوامل المعاكسة لاستمرار نشاط السوق في وتيرته المتصاعدة خلال الأعوام الماضية، تمثلت تلك العوامل في تجاوز الأسعار قدرة أغلبية المستهلكين، والارتفاع المطرد للفائدة، وتقلص حجم الطلب من المستهلكين نظير الارتفاع القياسي في معدل تملك المساكن "67 في المائة وفقا لأحدث تقارير شركة الاستشارات العقارية العالمية نايت فرانك"، كل هذا أفضى إلى بداية انكماش التمويل العقاري لدى الأفراد منذ منتصف العام الماضي، ثم تزايد بمعدلات أكبر حتى نهاية 2022، واستمر في التزايد من بداية العام الجاري مدفوعا شهرا بعد شهر من استمرار ارتفاع الفائدة، انتهى به الأمر إلى تسجيله انخفاضا سنويا تجاوز 54 في المائة بنهاية نيسان (أبريل) الماضي (4.3 مليار ريال)، متراجعا إلى أدنى مستوياته الشهرية منذ نهاية 2018، كما سجل انخفاضا خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الجاري بنسبة ناهزت 40 في المائة (27.9 مليار ريال)، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي (46.4 مليار ريال)، ومسجلا انخفاضا أكبر مقارنة بالفترة نفسها من 2021 بنسبة وصلت إلى نحو 58 في المائة (66.3 مليار ريال).

كما أن زيادة تدفق التمويل العقاري أسهمت في زيادة النشاط العقاري السكني بمعدلات ناهزت 92 في المائة، كما سبق ذكره أعلاه، فقد أدى تراجع التمويل إلى تباطؤ نشاط العقار السكني طوال عام مضى بنسبة فاقت 45 في المائة حتى نهاية الربع الأول من العام الجاري، ولا يزال النشاط السكني مستمرا في التراجع حتى الفترة الراهنة، وفق أحدث بيانات وزارة العدل بمعدلات مقاربة جدا لمعدلات التراجع في حجم الائتمان العقاري. ومما ضاعف من الضغوط على نشاط القطاع السكني في السوق، الإجراءات والتدابير المتسارعة التي قامت بها الأجهزة ذات العلاقة في السوق، استهدافا لكبح تلك الارتفاعات غير المبررة في الأسعار، بتنفيذها توجيهات القيادة الرشيدة بزيادة ضخ عشرات الملايين من أمتار الأراضي المطورة في المدن الرئيسة، وتفعيل مزيد من أدوات نظام الرسوم على الأراضي البيضاء في المدن والمحافظات، والانتقال إلى تنفيذ المراحل التالية من النظام، إضافة إلى ترشيد الدعم السكني الممنوح للمستفيدين، بما يسهم في ضبط حجم الائتمان العقاري، وبعد ارتفاع معدل تملك المساكن واقترابه كثيرا من النسبة المستهدف تحقيقها بحلول 2030.

يمكن القول بعد نحو عام مضى، تضمن تطورات غير مسبوقة لأبرز العوامل المؤثرة في السوق العقارية، أصبحت اليوم في طور تشكلها النهائي مع اقتراب تثبيت الفائدة عند مستوياتها المرتفعة الراهنة، وارتفاع احتمالات استقرارها عند تلك المستويات حتى نهاية العام المقبل، ما يشير إلى مزيد من تحييد دور الائتمان العقاري في تحفيز الطلب، الذي أصبح بدوره أقل مما كان عليه قبل عدة أعوام قليلة، نتيجة الارتفاع القياسي لمعدل تملك المساكن، إضافة إلى استمرار العمل بالمصفوفة المستحدثة والمرشدة للدعم السكني. يقابل كل ما تقدم إنجازات إيجابية على مستوى زيادة ضخ مساحات أكبر من الأراضي المطورة في المدن الرئيسة، وزيادة مطردة في المنتجات السكنية المتنوعة بأسعار تنافسية من شركات التطوير العقاري العملاقة، سيؤدي -بمشيئة الله تعالى- إلى تحقيق التوازن المنشود للسوق، واستقرار الأسعار عند المستويات العادلة لمختلف الأصول العقارية، التي توائم القدرة الشرائية والائتمانية لأغلبية المستهلكين الباحثين عن تملك مساكنهم، ضمن ضوابط تمويلية أكثر تحوطا وحماية للأطراف كافة "جهات تمويل، مقترضين"، بما يؤدي في مجمله إلى تحقيق استقرار أكبر للسوق، الذي سيسهم بدوره في مزيد من كبح التضخم وتعزيز الاستقرار والنمو الاقتصاديين، ويؤدي أيضا إلى تحفيز نمو القطاع الخاص، وتعزيز قدرته على زيادة مساهمته في الاقتصاد الوطني، وزيادته لفرص العمل المجدية أمام الموارد البشرية المواطنة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية