تحدثت في المقال السابق عن رحلة الرواتب حتى أصبحت أرقاما إلكترونية، وقد تلاحظ أنني أستخدم لفظة الأرقام الإلكترونية، بدلا من قول العملة الإلكترونية، ذلك أن هذه العبارة قد استهلكت بشكل خطير فتم اعتبار بيتكوين عملة رقمية، كما أنه لم يتم اعتبار عملات الدول مثل الدولار والين وغيرها حتى الريال عملات رقمية بعد، على الرغم من تداولها بصورة رقمية "مع ما في كلمة تداولها من تحفظ"، وفي 2020 أعلن البنك المركزي السعودي "ساما"، ومصرف الإمارات المركزي في بيان مشترك، مشروع "عابر"، يهدف إلى دراسة إصدار عملة رقمية للبنوك المركزية.
ومع وجود ما يسمى العملات المشفرة الكثيرة التي يتم تداولها أيضا في صور رقمية، فإن الرابط الوحيد بين كل هذه الأشكال أننا نراها على شاشات الجوال والأجهزة بمختلف أشكالها في صورة أرقام، وليس بالضرورة أن يكون هناك غطاء ورقي كامل لكل الأرقام التي نراها على الشاشات.
إذا العملة لم تعد ورقا بل مفهوما، وهذا أمر مهم للغاية، فمفهوم الدولار لم يعد تلك الورقة التي يطبعها الفيدرالي الأمريكي ولا الريال هو مجرد الورقة التي يطبعها البنك المركزي السعودي، بل هو مجرد مفهوم، أو قاعدة نظامية يمكن أن تظهر في أشكال مختلفة وفقا لما يراه البنك المركزي.
فمثلا المادة الأولى من نظام النقد العربي السعودي عرفت الريال بأنه وحدة النقد السعودي ويقسم الريال إلى 20 قرشا سعوديا، ويقسم القرش السعودي إلى خمس هللات سعودية، وجاء في المادة الثانية أن قيمة الريال السعودي تعادل "197482 /0" جرام من الذهب الخالص، وتسمى هذه القيمة، سعر التعادل، ولا يجوز تعديل سعر التعادل إلا بمرسوم ملكي، وتنص المادة السادسة من النظام على أن تغطي مؤسسة النقد العربي السعودي جميع النقود التي تصدرها بغطاء كامل، يساوي قيمتها تماما من الذهب والعملات الأجنبية القابلة للتحويل في الذهب، بهذا فإن النظام لم ينص قطعا على أن يكون للريال شكل محدد، بل هو مفهوم لوحدة النقد، التي من خلالها يتم قياس القيمة، وعلى هذا فإن الراتب الذي يتم تحويله إلى حساباتك في البنوك هو تعبير عن قيمة إنتاجك، وإذا كانت كل الأجور في شكل رقمي، الآن، وبغض النظر عن الغطاء القانوني لها، فهل هذه الأرقام ملك لنا أم هي ملك للبنك؟ ذلك أن العملة أصبحت مفهوما فقط، وشكلها الرقمي هو إنتاج أجهزة الحاسب والبرمجة في البنوك، فهل إغلاق هذه الأجهزة لأي سبب هو حق للبنك، وهل منعنا من الوصول إليها، هو إجراء مقبول؟
وهنا أطرح مجموعة تساؤلات مختلفة للنقاش والحوار والأخذ والعطاء وبحكم أننا بشر، فإن قيمة إنتاجنا هي عبارة عن كمية العمل، فالقيمة هي كمية العمل، ولأن العمل يقاس بعدد الساعات فإن القيمة هي عدد الساعات التي قدمناها خلال مدة محددة، فإذا كان راتب أحدنا هو ستة آلاف مثلا، فإن الساعة الواحدة من العمل تعادل قيمة بنحو 34 ريالا، ومع تحويل الراتب إلى الحسابات البنكية يمكننا تحويل هذه القيمة التي جاءت في صورة محايدة "رقمية" دون شكل محدد، إلى أي سلعة نريد أو حتى إلى الشكل الورقي للنقد، وعند تحويلها إلى أي سلعة، فإننا نصبح في مقارنة بين ساعات العمل التي علينا التضحية بها مقابل كل سلعة، فمثلا عند شراء علبة من اللبن قيمتها ريالان، فإن هذا يعني أنه قد تم في كل علبة للبن تخزين كمية عمل تعادل 3.52 دقيقة من عملنا، وإذا تم رفع سعر اللبن لكي يصبح 2.5 ريال مثلا، فإن ذلك يعادل 4.41 دقيقة عمل، فالتضخيم في أسعار المنتجات يتسبب في أخذ حصة أكبر من إنتاجنا كلما زادت الأسعار.
هنا يأتي تساؤل مهم جدا عن سبب ارتفاع الأسعار وهل هو بسبب أن كمية العمل المخزنة في علبة اللبن تتزايد، أي أن عدد أو قيمة الساعة زادت هناك، أم أن هناك عوامل ليست لها علاقة بكمية العمل ابتداء وهي الفائدة، هنا يأتي سؤال مهم للغاية، هل الفائدة قيمة؟ بمعنى آخر هل تمثل الفائدة زيادة في كمية العمل، أم هي مجرد زيادة؟ وبشكل أكثر تفصيلا هل عندما نقترض من البنك أرقاما "تمثل قيمة إنتاج أحدهم من الساعات" لماذا علينا أن نعيدها بساعات أكثر؟ وإذا كانت الحال هذه فما التضخم إذا؟ لماذا ترتفع قيمة العمل المخزنة في السلع بينما قيمة عملنا كما هي؟ وإذا كنت أعمل في مصنع للألبان، ولم تتم أي زيادة في قيمة ساعات العمل ونقوم بالإنتاج نفسه، فكيف ارتفعت الأسعار؟ هل هذه الأسئلة صحيحة؟
نقلا عن الاقتصادية