زخر الأسبوع الماضي بعقد لقاءات ثرية متنوعة في جوانب عديدة للعقار والإسكان. ومن جوانب النقاشات الاهتمام بجوانب أنسنة المدن. والكمال لله، فهناك قضايا عقارية وإسكانية وهناك جوانب لأنسنة المدن، لم تحظ بالفرصة لمناقشتها، وعلى رأسها أرصفة المشاة وتحسين السلامة المرورية، والكلام في هذا المقال عن أرصفة المشاة. شوارعنا تفتقر في الأغلب إلى أرصفة مناسبة للمشاة، والكلام على الوضع الغالب العام، وليس عن كل شارع وتجمع حضري وحي ومدينة، هذا الافتقار إما لأنها غير موجودة أصلا، وإما أنها موجودة لكنها في الغالب غير مشجعة لاستخدامها في المشي، أي أنها لا تحفز المشاة على استعمالها. ولذلك اعتدنا صغارا وكبارا على استعمال قارعة الطريق أي السير فيما خصص لسير السيارات، خلاف المفترض، وبالعكس، هناك شوارع قليلة وفرت فيها أرصفة مبالغ في عرضها وسعتها.
تزداد أهمية أرصفة المشاة مع التوجه إلى ترغيب الناس في استخدام النقل العام المعلن بدء تشغيله قريبا، لعدة فوائد منها تخفيف الزحام. إن وجود أرصفة مهيأة جيدا لاستخدام المشاة هو من أهم عوامل الجذب لاستخدام النقل العام، وخلاف ما سبق، وجود تلك الأرصفة من أهم وسائل السلامة، لأنها تقلل من احتمال تعرض المشاة لأخطار السيارات وحوادثها، وهي كثيرة، كما أن وجود الأرصفة ـ من جهة أخرى ـ يسهم في رفع الوعي المروري على المدى البعيد، لكون المشاة يسيرون في الشارع أو أن السيارات تقف على الأرصفة. هذا الوضع المقلوب له أثر سيئ في تعويد الناس على ترك المشي، وله أثر تربوي سيئ، خاصة عند الصغار. على سبيل المثال، يذهب غالب الصغار إلى مدارسهم ويرجعون منها مشيا، لكنهم لا يستخدمون أرصفة المشاة لأنها غير موجودة أو غير مناسبة، من نتائج ذلك تعويدهم على قلة الاحتراس وضعف الانضباطية في الحركة في الشوارع. وهذا التعويد الذي يتربى عليه الصغار يقلل من مبالاتهم لقواعد السلامة المرورية حينما يكبرون ويتولون قيادة السيارات
عجبت كثيرا من وجود أرصفة في وسطها زرعت أشجار ووضعت لوحات وأعمدة إضاءة بحيث لم يتبق من جوانب الرصيف إلا مسافات ضيقة لا تصلح للمشي، ما يدفع المشاة إلى ترك الرصيف والسير في الشارع المخصص للسيارات. مدن كثيرة في العالم زرناها ورأينا أن الأشجار تزرع واللوحات توضع عادة على حافة الرصيف من جهة الشارع، بحيث تبقى مسافة كافية من الرصيف لاستعمال المشاة، مشكلة أخرى في أرصفة الشوارع، وهي كون كثير منها مرتفعا نسبيا عند التقاطعات، والمفروض أن ينخفض ارتفاع الرصيف عند التقاطعات أو الإشارات أي عند الأماكن التي يعبر منها المشاة الشوارع، مشكلة رابعة وهي كون بعض الأرصفة المتصلة متفاوتة الارتفاع بشكل كبير بسبب تفاوت مناسيب البيوت أو الدكاكين، ما يدفع المشاة إلى عدم استخدامها. مشكلة خامسة وهي استعمال جزء كبير من الرصيف درجا، ما يدفع المشاة أيضا إلى ترك استخدام الرصيف.
ما علاقة ما ذكر بالحوادث المرورية؟
من أهم أسباب إنشاء الأرصفة هو استعمال المشاة لها، ولكون المشاة يسيرون في الشارع "أو أن السيارات تقف على الأرصفة" لا شك أنه يعرض سلامة المشاة للخطر، من جهة أخرى، هذا الوضع المقلوب له أثر سيئ تربوي، سيئ خاصة عند الأطفال، يتربى الناس على الفوضى، وعلى عدم احترام أنظمة المرور وآدابه، كما أن الفوضى هنا تربي على الفوضى هناك وهكذا.
ما علاقة الأرصفة بالنقل العام؟
هناك علاقة وثيقة بين توافر أرصفة مشاة والإقبال على استخدام النقل العام. النقل العام كلما كان أكثر انتشارا زادت منافعه كتخفيف زحام السيارات في الشوارع، لكن لأرصفة المشاة علاقة قوية بترغيب الناس في استخدام النقل العام. فقدان أرصفة مشجعة على المشي سيتسبب في إضعاف الإقبال على النقل العام، خاصة في المدن الكبيرة، ذلك أن طبيعة النقل العام تعني وجود محطات له. وتعني أن الناس أعني المستخدمين للنقل العام، خاصة القريبين من محطاته، سيتعود كثير منهم على المشي لمسافات بين أماكنهم وتلك المحطات. أي أن طبيعة النقل العام في أي مدينة في العالم تتطلب من الناس المشي لمسافات، مطلوب وضع مواصفات وتصاميم لأرصفة مشجعة لاستعمال المشاة، دون مبالغة في عرضها وسعتها، ومطلوب أن تنفذ في كل الشوارع أو على الأقل في الشوارع التي بعرض 15 مترا أو أكثر، وهذا من المؤكد أنه يساعد ـ مع غيره ـ على حث الناس على استخدام الأرصفة ووسائل النقل العام، وعلى تغيير ما اعتاد عليه أفراد المجتمع من سلوكيات مرورية سيئة.
ويفضل جيدا أن تظلل الأرصفة قدر المستطاع، سواء من قبل البلديات أو من قبل أصحاب المباني على الشوارع، والهدف تخفيف حر الشمس، وترغيب الناس في المشي عليها. ولا شك في أن حرارة الجو وأشعة الشمس تقللان من رغبة الناس في المشي، إن وجود تلك الأرصفة يقلل حوادث السيارات والمشاة، فقد يجادل البعض بالقدر، إننا نؤمن بالقدر، لكننا نؤمن أيضا بأننا مسؤولون عن تصرفاتنا، ونحن مطالبون باتخاذ الأسباب، وعمل الاحتياطات لدرء أو تقليل المفاسد، إن اتخاذ الأسباب لا يضمن منع الحوادث، لكنه يقوي احتمال منعها، بإذن الله، وهذا أمر يدركه كل عاقل، أما الاحتجاج بالقدر هكذا فقط، دون اتخاذ أسباب السلامة أو ما يقلل من احتمال الخطر، فإنه فهم مغلوط غير مقبول، ويدفع إلى التهرب من تحمل المسؤولية وإلى الإهمال، وبالله التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية