تأهب الاقتصاد الوطني لتحديات العام المقبل

14/12/2022 1
عبد الحميد العمري

أظهر الاقتصاد السعودي أداء قياسيا خلال ما مضى من العام الجاري، انتهى حتى أحدث مؤشرات أدائه بنهاية الربع الثالث من العام الجاري بنمو حقيقي للاقتصاد بمعدل سنوي بلغ 8.8 في المائة، ونمو القطاع الخاص للفترة نفسها بمعدل سنوي بلغ 5.9 في المائة، قابل ذلك سيطرة عالية على معدل التضخم، الذي لم تتجاوز نسبة ارتفاعه خلال أول عشرة أشهر من العام الجاري 2.3 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

وعلى مستوى المالية العامة، فقد أظهر ارتفاع إجمالي الإيرادات العامة بنسبة 27.8 في المائة إلى أعلى من 1.23 تريليون ريال، مقابل ارتفاع إجمالي المصروفات الحكومية بنسبة 8.9 في المائة إلى أعلى من 1.13 تريليون ريال، مسجلة نموا سنويا وصلت نسبته إلى 8.9 في المائة، ما أثمر عن تحقيق الميزانية العامة للدولة أول فائض مالي لها منذ العام المالي 2013 بنحو 102 مليار ريال (2.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022)، وارتفع الدين العام خلال العام المالي الجاري إلى نحو 985 مليار ريال (24.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022) بنسبة لم تتجاوز 5.0 في المائة، مقارنة برصيده الماضي 938 مليار ريال (30.0 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021).

أما على مستوى تطورات سوق العمل، فقد استمر النمو في أعداد العمالة المواطنة في القطاع الخاص بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، مسجلا نموا سنويا وصل معدله إلى 16.1 في المائة، استقر على أثره إجمالي العمالة المواطنة مع نهاية الفترة عند أعلى من 2.1 مليون عامل، كأعلى مستوى تصل إليه مساهمة العمالة المواطنة في القطاع الخاص، وارتفع على أثره معدل التوطين إلى 23.5 في المائة، ووفق أحدث بيانات معدل البطالة بين السعوديين الذي تراجع إلى 9.7 في المائة بنهاية الربع الثاني من العام الجاري، إلا أنه يقدر أن يستمر تراجعه مع التطورات الإيجابية خلال الربع الثالث إلى 9.3 في المائة، ويؤمل أن يستمر في التراجع إلى أدنى من تلك المعدلات بنهاية العام الجاري، وتواصل سوق العمل أداءها الإيجابي خلال العام المقبل، بإذن الله تعالى.

نظرا لعديد من التقلبات والأزمات التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال الأعوام الأخيرة، بدءا من اصطدامه بأزمة كوفيد - 19 حتى العام الجاري، الذي حمل في طياته ارتفاع معدلات التضخم في أغلب الاقتصادات، ووصوله إلى أعلى مستوياته في منظور أكثر من أربعة عقود مضت، نتيجة للتوترات الجيوسياسية وما ترتب عليها من تذبذبات حادة في أسواق الطاقة، والآثار السلبية في إمدادات أسوق السلع الأساسية، إضافة إلى تحرك البنوك المركزية المتشدد نحو مواجهة التضخم برفع معدلات الفائدة، كل تلك المتغيرات تشير إلى توقعات بأن يواجه الاقتصاد العالمي مزيدا من تلك التحديات خلال العامين المقبلين على أقل تقدير، ويرفع من حالة الضبابية التي ينتظرها، ما زاد بدوره من الشكوك حول دخوله حالة من الركود الاقتصادي مع منتصف العام المقبل، خاصة في الاقتصادات المتقدمة مصحوبا بمعدلات تضخم مرتفعة (ركود تضخمي).

وعليه، فإن الاقتصاد السعودي ليس بمعزل عن تلك التحديات أو الصدمات التي يواجهها الاقتصاد العالمي، ووفق بيان الميزانية 2023 الصادر عن وزارة المالية: سيؤدي تزايد احتمالية دخول الاقتصاد العالمي حالة من الركود، إلى تراجع كبير في الطلب العالمي وانخفاض التبادل التجاري، وتأثر المالية العامة بذلك من خلال احتمالية تراجع الإيرادات عن المتوقع في الميزانية، حيث تشكل الإيرادات النفطية نسبة كبيرة من إجمالي الإيرادات، التي تسهم في تمويل النفقات وبناء الاحتياطيات اللازمة لمواجهة التغير في الظروف المستقبلية.

كما أن النشاط الاقتصادي قد يتأثر في حال اتخاذ بعض الدول إجراءات احترازية للحد من انتشار كوفيد - 19 فيها، أو حال ظهور مخاوف صحية جديدة، ما قد يعود تأثيره في العمليات التصنيعية، وسلاسل الإمداد ليزيد من حدة التراجع في معدلات النمو، وهو ما سينعكس تأثيره على الاقتصاد المحلي وأداء المالية العامة لميزانية عام 2023 والتوقعات في الأجل المتوسط، فعلى مستوى الاقتصاد المحلي قد تكون هناك احتمالية لارتفاع معدلات التضخم المحلية بأعلى من المقدر في الميزانية، ليتأثر سلوك المستهلكين بالاتجاه للانخفاض، خاصة للأسر محدودة الدخل، ما ينعكس على معدلات الاستهلاك، ونمو الناتج المحلي الإجمالي، مؤثرا بذلك في ثقة المستثمرين وقراراتهم الاستثمارية، أما على جانب المالية العامة، فقد ينعكس أثر استمرار ارتفاع التضخم على الارتفاع في بعض أوجه النفقات الحكومية.

كما سينعكس أثر احتمالية ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية بمعدلات غير متوقعة على ارتفاع معدلات الإقراض بين البنوك المحلية (السايبور)، مؤثرا بذلك في مؤشرات الاستهلاك والاستثمار والائتمان الممنوح للقطاع الخاص، أما على جانب المالية العامة، فسترتفع تكاليف الاقتراض على إصدارات الدين الجديدة، إضافة إلى الإصدارات ذات العائد المتغير التي تمت خلال الأعوام السابقة رغم محدوديتها، ما قد يؤثر في بعض خطط تمويل المشاريع الاستراتيجية على المدى المتوسط.

ولمواجهة ذلك يتم العمل على الاستمرار في تعزيز السيولة في القطاع المصرفي، إضافة إلى خفض الاحتياجات التمويلية للميزانية نتيجة توقع تحقيق فوائض على المدى المتوسط، ما يتيح للقطاع الخاص مساحة تمويلية أكبر، كما أن البنك المركزي السعودي لديه عدد من أدوات السياسة النقدية التي من شأنها الحد من تلك الآثار السلبية، إضافة إلى ما قد تشهده أسواق البترول من تقلبات رغم الجهود الكبيرة لـ"أوبك+" بهدف تحقيق التوازن والاستقرار في أسواق البترول، كإجراء احترازي، في ظل توقعات تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم العالمية وتأثير ذلك في الطلب على البترول، وفي المجمل يؤمل ألا تتجاوز انعكاسات المؤشرات المحتملة لأداء الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل المستويات الممكن التعامل معها محليا، دون اغفال الصلابة التي يتسم بها الاقتصاد السعودي، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد غير النفطي، المحتمل تأثره سلبا نتيجة لتلك الاحتمالات المرتقبة، وقد تؤثر سلبا في الخطط الاستثمارية وتنمية القطاع الخاص، واحتمالية عرقلة أو تباطؤ تنفيذ بعض المشاريع والبرامج المخطط لها الداعمة لنمو النشاط الاقتصادي، إما نتيجة ارتفاع تكاليف التمويل، أو ارتفاع الأسعار، وما قد يسهم في تراجع الدخل المتاح للفرد مؤثرا بذلك في قرارات الادخار والإنفاق، ما يؤدي إلى تراجع الاستهلاك الخاص، أو احتمالية انخفاض الموارد المتاحة بسبب تراجع النشاط الاقتصادي العالمي واضطرابات سلاسل الإمداد وانخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة على المستوى الدولي، وانعكاس ذلك على خطط نمو الاستثمارات المحلية، يؤمل أنه محدود وتحت السيطرة كما أثبتته التجارب السابقة للاقتصاد الوطني خلال الأعوام الأخيرة، وأن تستمر إصلاحات الاقتصاد وتنويع قاعدته الإنتاجية تحت رؤية المملكة 2030.

 

نقلا عن الاقتصادية