قصة الاقتصاد التايلندي

21/11/2022 1
د. عبدالله الردادي

من ينظر إلى تايلند اليوم، لا يصدق أنها تلك الدولة التي كان اقتصادها يعتمد على الزراعة بشكل شبه كامل في الستينات الميلادية. وخلال ذلك العقد، كان 80 في المائة من الاقتصاد التايلندي يعتمد على الصادرات الزراعية، مثل الأرز والمطاط، ولكن تايلند أنشأت في عام 1966 كياناً سمته «مجلس الاستثمار»، بهدف دعم عملية التصنيع، لتنطلق بعد ذلك عملية تنموية شاملة، تحولت خلالها تايلند من دولة منخفضة الدخل إلى دولة متوسطة الدخل. وخلال الثلاثين عاماً الماضية، شهدت تايلند نمواً مستمراً، وانخفضت فيها نسبة الفقر 55 في المائة، منها 7 في المائة بين عامي 2013 و2019؛ أي إن خطط الحكومة التايلندية لا تزال مستمرة لخفض نسبة الفقر وزيادة الرفاه المعيشي.

ويمكن تقسيم مراحل نمو تايلند إلى أربع مراحل: الأولى هي تايلند 1.0، وهي مرحلة الستينات وبداية السبعينات الميلادية، حيث أدرك البلد أهمية التحول من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي، وأسس «مجلس الاستثمار»، وساعده في هذا التحول علاقته المتينة مع الولايات المتحدة التي أرادت نفوذاً في آسيا إبّان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وأعفت تايلند خلال تلك الفترة المستثمرين الأميركيين من العديد من القيود التي كانت تواجهها الشركات متعددة الجنسيات.

المرحلة الثانية هي تايلند 2.0، وفيها انتقلت تايلند إلى الصناعات الخفيفة، وخلال هذه المرحلة عززت الحكومة من جهودها التصنيعية، وطبقت استراتيجية استبدال الواردات، وهي استراتيجية كانت شائعة في العديد من البلدان النامية حينها، والهدف كان حينها الحد من الاعتماد على السلع المستوردة، وتوفير النقد الأجنبي، وزيادة القيمة المضافة، والتنويع بعيداً عن الزراعة. ومنذ ذلك الوقت وحتى وقتنا الحالي لا تزال تايلند إلى حد ما تطبق سياسة الاكتفاء الذاتي في العديد من الصناعات.

المرحلة الثالثة هي تايلند 3.0، ودخلت فيها تايلند عالم أكثر الصناعات تعقيداً، وبدأت في ترويج صادراتها للخارج بدلاً من الاكتفاء بالطلب المحلي. وغيّر نظام التشجيع على الاستثمار عام 1977 الكثير من المفاهيم في تايلند، وذلك بتقديم حوافز وتسهيلات خاصة للمصدّرين. جعلت هذه التسهيلات البلد جذاباً للاستثمارات الأجنبية، وخاصة اليابان التي كانت في أوج نموها الصناعي خلال الثمانينات الميلادية، والتي كانت تايلند بحاجة إلى شراكة معها للارتقاء بقطاعها الصناعي، كما جذبت كذلك الاستثمارات السنغافورية والتايوانية.

طوال هذه السنوات اتبعت تايلند نظام الخطط الخمسية، حيث تقر الحكومة خطة مدتها خمس سنوات، وتتابع تقدم الخطط عن طريق أجهزتها الحكومية، أو «مجلس الاستثمار» في حالة تايلند، ولكن في عام 2017، غيرت تايلند هذا النظام، وأقر دستورها خطة مدتها عشرون عاماً، تراجع استراتيجيتها كل خمس سنوات. هذه المرحلة هي تايلند 4.0، وفيها تطمح تايلند إلى التحول إلى اقتصاد قائم على الابتكار بحلول عام 2037، متحولة بذلك من دولة متوسطة الدخل إلى مرتفعة الدخل. وترمي تايلند إلى تعزيز التقنية والإبداع في الصناعات والخدمات.

ولدى تايلند سجل يؤكد قدرتها على هذا التحول، فبعد أن كان الاقتصاد معتمداً بشكل شبه كامل على الزراعة في الستينات الميلادية، أصبحت الزراعة لا تشكل إلا 8 في المائة من الاقتصاد التايلندي اليوم، على الرغم من أن القوى العاملة فيها تشكل نحو 30 في المائة من القوى العاملة في البلد. وأصبحت الصناعة تشكل 35 في المائة من الاقتصاد الوطني، ويعمل في هذا القطاع 23 في المائة من التايلنديين.

وبالمقارنة بين القطاعين، فإن مساهمة القطاع الزراعي في الستينات الميلادية كانت 3 أضعاف مساهمة القطاع الصناعي، أما الآن فالزراعة نصيبها ثُلث الصناعة. كما أن حصة الصادرات نمت من 20 في المائة في الثمانينات الميلادية إلى 70 في المائة اليوم. ولا يجب كذلك نسيان القطاع السياحي الذي تبلغ مساهمته 15 في المائة. وتركز تايلند في المستقبل على زيادة مساهمة هذا القطاع بالتركيز على السياحة العلاجية والاستشفائية. كما أنها في رؤيتها للعشرين عاماً القادمة حددت 10 قطاعات حيوية لمستقبلها، منها 5 قطاعات قائمة الآن، مثل الزراعة والأغذية والإلكترونيات، و5 أخرى ترغب في التقدم بها، مثل الطب والطيران واللوجستيات والأتمتة والاقتصاد الرقمي.

إن المتأمل في كيفية ارتقاء الاقتصاد التايلندي، يرى أهمية دور الجهود الإقليمية لتعزيز الاتصال والتجارة والاستثمار، فهذه هي المكونات الرئيسية التي مكّنت تايلند من تنفيذ خططها التنموية الطموحة. فقد لعبت الولايات المتحدة دوراً مهماً في تايلند في بداية نهضتها الاقتصادية، ومن ثم لعبت اليابان وسنغافورة وتايوان أدواراً مشابهة، واستثمرت تايلند كذلك النمو الصيني بما يخدم اقتصادها الوطني. كل ذلك مدعوم بالموقع الجغرافي لتايلند، وبرغبة مستمرة من حكومتها على الارتقاء برفاهها المعيشي.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط