أسعدني جداً التوجه السعودي القوي نحو استكمال مشاريع البنية التحتية الطموحة في كافة مناطق المملكة، حتى أن مشاريع العقارات والبنية التحتية منذ إطلاق خطة التحول الوطني 2030 تجاوزت نحو 1.1 تريليون دولار، ولعل البعض لا يعلم أن إطلاق شركة "داون تاون السعودية"، قد سبقه العام الماضي تأسيس صندوق البنية التحتية الوطني لدعم مشروعات بنية تحتية بقيمة 200 مليار ريال على مدى عشر سنوات، ولا شك، أن هذا التوجه المستقبلي سينعكس إيجاباً على الاقتصاد الوطني، وسيوفر المزيد من فرص العمل، وسيعزز من جودة ورفاهية الحياة.
لست غريباً عن الرياض، فقد عشت فيها لأكثر من 10 سنوات، وشاهدت بنفسي حركة التطور العمراني المتسارعة، ومشاريع البنية التحتية المذهلة في العاصمة التي من المتوقع أن يقترب عدد سكانها من 17 مليوناً بحلول عام 2030، ولكي ندرك أهمية هذا التوجه السعودي، يجب أن نعلم أن سكان بعض أكابر الدول يشكون نقصاً حاداً في هذه الاستثمارات الشعبوية بامتياز، وعلى سبيل المثال، فقد عانى الاقتصاد الأمريكي لعقود طويلة من تهالك البنية التحتية بسبب المناوشات السياسية، وضبابية التمويل، وهذا التلكؤ كلف الولايات المتحدة فقدان المليارات من الناتج المحلي الإجمالي، حتى أن الأمريكيون يعتبرون أن أهم إنجازات الرئيس جو بايدن يكمن في تمرير مقترحه بضخ 1.2 تريليون دولار لتحديث الطرق والكباري والجسور وشبكات الإنترنت فائقة السرعة.
أما الصين، فقد أطلقت قبل 10 سنوات تقريباً مبادرة الحزام والطريق، والتي تعد بلا منازع أكبر مشاريع للبنية التحتية في العالم، لأنها تضم أكثر من 100 دولة، يحاولون الاستفادة من مشاريع تحتية أبرزها في قطاعات السكك الحديدية والموانئ والطرق السريعة، وهو ما اعتبره الغرب نوعاً من التغول الصيني الراغب في السيطرة، وبهدف مواجهته، تعهدت مجموعة السبع في شهر يونيو الماضي بجمع مبلغ 600 مليار دولار لتمويل مشاريع البنى التحتية في الدول النامية.
يبدو الرهان على استثمارات البنية التحتية أساسياً للتعافي الاقتصادي، فهي قاطرة النمو لتجاوز الآثار السلبية الطويلة للجائحة، وتداعيات الحرب الروسية، والضغوط التضخمية، ومخاوف رفع أسعار الفائدة على إطلاق مارد الركود، لهذا، لا يمكن أن نتصور انتعاشاً للنمو بدون تدشين مشاريع طموحة للبنية التحتية، ويكفي أن نعلم أن كل دولاراً ينفق على قطاعات مثل المرافق العامة، والاتصالات، والطاقة، والنقل، يدر أرباحاً تتخطى 20 % من رأس المال، وهذا الأمر كافي للتحفيز.
لكن، المستقبل أيضاً يخبرنا بأهمية هذا التوجه الوطني، إذ سيصبح عدد سكان العالم 9.7 مليار نسمة بحلول منتصف القرن، وهى زيادة تقدر بملياري نسمة أو 25% من إجمالي السكان حالياً، فيما سترتفع معدلات الهجرة للمدن بنحو 50 % بحثاً عن جودة الحياة، وهذه الأعداد الغفيرة ستضع ضغوطاً هائلة على البنية التحتية، وقد ترفع استثمارات القطاع المزدهر إلى أكثر من 200 تريليون دولار.
لا يقتصر الأمر على إشكالية تدبير هذه الأموال الفلكية، فهناك تحديات أخرى تتعلق بسلم أولويات البنية التحتية، فمثلاً يجب على الخبراء والمتخصصين تحديد أسبقية القطاعات المستفيدة من التمويل طبقاً لحاجة المجتمع، ودراسة جدوى إنشاء مدن جديدة أو متخصصة، والتدقيق في مبررات توجيه الأموال إلى قطاع بعينه دون آخر، وفقاً لنظرية تكلفة الفرصة البديلة، وفي كل الأحوال، ستتغير الفكرة السائدة ككل عن البنية التحتية، بسبب تنامي التحول الرقمي، والتركيبة السكانية المتغيرة، وزيادة سكان المناطق الحضرية، وسيبرز لاعبون جدد في القطاع يشكلون خريطة الاستثمارات المستقبلية، وفي مقدمتهم شركات التكنولوجيا العملاقة، وصناديق الثروة السيادية.
وهكذا، تبدو الفرصة مواتية للقطاع الخاص لاقتناص جزء من الكعكة الشهية، عبر الدخول منفردين أو بشراكات حكومية في هذه المشاريع المربحة، فالإنفاق العالمي على البنية التحتية مرشح للارتفاع إلى 9 تريليونات دولار سنوياً، وسيقفز إنفاق الدول السبع الكبرى على البنية الأساسية إلى 70 تريليون دولار بحلول 2050، بينما تستعد الدول الناشئة لإنفاق سنوي بنحو 138 تريليون دولار، والأهم، أن الاستثمار في البنية التحتية والأصول العقارية يشكل للمستثمرين الآن أحد أهم أدوات التحوط اللازمة من التضخم.
نقلا عن الرياض