يبدو أن البنوك المركزية ستعود لصدارة الأخبار من جديد بعد أن تخلت عن هذا الدور مؤقتا لصالح وزارت المالية التي تقود خطط التحفيز عالميا بعد أن تم رصد خمسة تريلونات دولار بقمة العشرين بلندن في ابريل من العام الفائت؛ حيث تركز الحديث وتسليط الأضواء مؤخرا عن مدى قدرة هذه الخطط والجهات التي تنفذها في تحقيق التعافي من الأزمة العالمية التي انتقلت للاقتصاد الحقيقي وكانت البنوك المركزية هي المتصدي للازمة أولا بتخفيض أسعار الفائدة وضخ السيولة بالبنوك التجارية والعديد من حزم الإجراءات الضرورية في ذلك الوقت ولم يكن في بالها إلقاء أي أهمية لعامل التضخم لان الخطر الأكبر تمثل بالأزمة وبالتالي ضرورة الخروج منها عبر الأدوات التي تملكها.
إلا أن تداعيات الأزمة العالمية بدأت تعيد تشكيل الصورة من جديد نحو الأدوار التي يجب أن تتبدل مراكزها بين سياسة مالية ونقدية فالصين تعرب عن تخوفها من ارتفاع معدلات التضخم وبدأت تتحرك نحو تشديد السياسة النقدية من خلال رفع لأسعار الفائدة مؤخرا وتوقع نفس الإجراء مستقبلا بالرغم من إبقائها على خطط التحفيز إلا أنها تريد التشدد تجاه الإقراض للقطاع الخاص حتى تكبح جماح التضخم لديها وسيراقب العالم بالتأكيد خلال الأشهر القادمة ما ستتخذه خصوصا أن التضخم لديها بلغ 3% بعد ارتفاع بأسعار المنتجين والمستهلكين لأعلى مستوياته منذ 16 شهرا لكن على النقيض من ذلك فإن الصورة تبدو مختلفة لدى اليابانيين الذين سجلوا تراجعا بمعدلات النمو مؤخرا إلى 0.9 بالمائة بعد أن حققوا قبل ذلك 1.1% وخوفا من عودة الاقتصاد الياباني للركود يرى الخبراء أن على البنك المركزي الياباني اتخاذ خطوات أكثر تيسيرا لدفع القطاع الخاص نحو الاستمرار بتيسير أعماله يقابله بذلك فائض بالبضائع المنتجة لديهم, خصوصا ان اقتصادها يعتمد على التصدير.
لكن المسؤولية الكبرى تقع اليوم على اقتصاد منطقة اليورو الذي يحاول جاهدا الدخول إلى أحد خطوط الحل لازمة اليونان والاستعداد لازمات متوقعة بدول أخرى كاسبانيا والبرتغال وايطاليا وايرلندا فلم يتحرك البنك الأوربي بالشكل المطلوب أو الواضح للتدخل على خط الأزمة بل يقف حائرا بين اقتراحات ألمانية ترغب بإنشاء صندوق طوارئ للدول وتأكيدات فرنسية بأن دولة من منطقة اليورو لن تسقط وان الحل لابد أن يكون حاضرا لكن ما هو دور البنك المركزي الأوروبي هذا ما ينتظره الجميع هل سيدعم ضخ المزيد من السيولة أم سيراقب التضخم وأي من الأمرين سيشكل الأولوية له مستقبلا.
وفي أمريكا بدا البنك الاحتياطي الأمريكي رفع أسعار الفائدة على الأموال الطارئة بينما أبقى الأساس على سعرها لكنه لا يستبعد رفعها مستقبلا ويبقى للنصف الثاني من 2010 أهمية بمراقبة ما سيتخذه خصوصا أن التضخم أصبح هاجسا له وضخ المزيد من الأموال بالسوق لن يكون متاحا دائما وان كان مرغما على شراء سندات الخزانة الأمريكية إذا لم يتقدم أحد أو لم تحظ بالتغطية المطلوبة إذا ما نظرنا كذلك أن العجز الأمريكي أصبح كبيرا جدا ووصل إلى 220 مليار دولار بالشهر الماضي.
فما بين هواجس التضخم وضرورة التوسع بالإنفاق الحكومي وتلبية احتياج القطاع الخاص تقع البنوك المركزية حائرة بين الأولويات مجددا فإذا تم سحب الأموال سيكون الأثر كبيرا على أسواق المال بالدرجة الأولى وسترتفع حظوظ الذهب بالارتفاع وسيتضرر الاقتصاد العالمي كثيرا بضعف حركة الإنتاج والتجارة الدولية وستفلس الكثير من الشركات وتزداد البطالة وبالوقت نفسه لن تستطيع خطط التحفيز دفع عجلة النمو للحركة لوحدها خصوصا أن الشكوك حول حجمها وأثره على إنقاذ العالم اقتصاديا مازالت قائمة لان بعض التقارير الاقتصادية ترى ضرورة زيادتها إلى ضعف ما اقر ولكن ذلك لن يكون سهلا لأنه محفوف بمخاطر الارتفاع السريع للتضخم وكذلك للدين العام السيادي لكبرى الدول.
البنوك المركزية العالمية على المحك والقدرة على رسم الأولويات والتعامل السريع والمسبق مع الحدث سيكون عنوان المرحلة القادمة ولابد من التنسيق الكامل بينها لان هناك من سيرى مصلحة بما يحدث الآن لتحقيق فوائد اقتصادية بقدر ما ستكون ايجابية له إلا أنها ستضر البقية فتحسن الدولار على حساب اليورو والعملات الأخرى يعني توجه العالم مجددا للاستثمار بأمريكا وارتفاع تكاليف الإنتاج بالصين سيخدم الميزان التجاري لأمريكا مع الصين ولكن الواقع يفرض أن يكون هناك توازن وتوازي بانتعاش الاقتصاد العالمي حتى لا تكون القضية مستقبلا هي سد ثقوب مركب الاقتصاد العالمي بقدر ما يجب تدعيم قواعده من قبل كل القوى الفاعلة فيه فالعالم اليوم يواجه أزمة الجميع معني بها.