البنوك المركزية.. وإزالة تجاعيد التضخم

30/06/2022 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

بشكل دراماتيكي، أدرك الجميع خلال سني الجائحة أن التضخم مرض عضال يسحق الفقراء ويدمر الطبقة الوسطى، فحتى قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، قفز التضخم فوق 7.5٪ في الولايات المتحدة، وأكثر من 5٪ في أوروبا، وبالتالي، فإن دعوات ترويض هذا الغول لها ما يبررها، كما أن رفع أسعار الفائدة المتتالي في البنوك المركزية حول العالم لم يكن مفاجئًا، لكن التجاعيد الجديدة التي نواجهها تبرز حقيقة مؤلمة وهي أن الحلول المفترضة تهدد بتوجيه ضربة قاسية للمحرومين، وتنذر بكارثة القضاء على التحول البيئي الأخضر.

في عالم اليوم، يهيمن معسكران مؤثران على خطاب التضخم، يطالب أحدهما بإخماد النيران التضخمية فورًا من خلال نسخة السياسة النقدية المتمثلة في الصدمة والرعب، أي رفع أسعار الفائدة بحدة لخنق الإنفاق، ويحذر هذا المعسكر من أن تأخير العنف النقدي سيستلزم مستويات وحشية من "صدمة فولكر"، في إشارة إلى بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي قمع التضخم المفرط في السبعينيات من خلال أسعار الفائدة المرتفعة التي شوهت الطبقة العاملة الأمريكية ليومنا هذا، اما المعسكر الثاني فيحتج بأن هذا الأمر غير ضروري، واقترحوا موقفًا ثابتًا طالما بقي تضخم الأجور مقيدًا.

لكن، المعسكران يتفقان على أن زيادة الأجور هو التهديد الحقيقي، والخلاف بينهما يركز فقط على ما إذا كان من الحكمة التصرف قبل أو بعد حصول الأزمة، كما يتفقون على أنه لمحاربة التضخم يجب التعامل مع معروض النقود والائتمان عبر خطوتين حيث تتوقف البنوك المركزية عن ضخ أموال جديدة وترفع أسعار الفائدة، والواقع، أن كلا المعسكرين مخطئان، لأنه يجب الترحيب بتضخم الأجور، وليس التعامل معه على أنه عدو الشعب، وثانيًا، يجب أن تستمر البنوك المركزية في تكوين النقود بسبب رفع أسعار الفائدة، وزيادة تمويل الاستثمارات الخضراء ودعم مشروعات الضمان الاجتماعي.

منذ عام 2008، تم السماح بزيادة فجوة عدم المساواة، فقد أدت عشر سنوات من تدليل البنوك المركزية للأثرياء، إلى جانب التقشف العقابي للكثيرين، إلى نقص مزمن في الاستثمارات وتدني الأجور، وهكذا أصبح تضخم أسعار الأصول وعدم المساواة المخدرة للعقل هو النظام السائد اليوم، ويتفق الجميع تقريبًا الآن، ومنهم الأثرياء، على أن الأجور يجب أن ترتفع ليس فقط لصالح العمال ولكن أيضًا لأن الأجور المنخفضة تقلل الاستثمارات وتخلف مجتمعات مليئة بالإنتاجية المنخفضة والمهارات المتواضعة والآفاق المتدنية والسياسات الاقتصادية السامة.

وفقاً للمعايير التاريخية، فإن تضخم الأجور الناجم عن نقص العمالة بعد الإغلاق، وبعد 10 سنوات من غض الطرف عن تضخم أسعار الأصول الهائج، حتى الاحتفال به، كما في حالة أسعار المنازل المجنونة وأسواق الأسهم الصاخبة، دفعت كل هذه العوامل السلطات إلى حالة من الذعر لا يمكن السيطرة عليها، وفجأة، تحول احتمال ارتفاع الأجور من هدف إلى تهديد، مما دفع أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، إلى مطالبة العمال بوضع مطالبهم المتعلقة بالأجور تحت الضبط.

لكننا الآن لسنا باتجاه تكرار سيناريو السبعينيات، عندما أضحت الطبقة العاملة هي الضحية الوحيدة لارتفاع أسعار الفائدة، فالأمر المختلف اليوم هو أن "صدمة فولكر" قد تؤدي إلى خنق التحول الأخضر جنبًا إلى جنب مع جزء كبير من حصة العمالة من الدخل، والحجة المضادة، بطبيعة الحال، هي أنه لن يستفيد العمال ولا قدرة للمجتمع على الاستثمار في التحول الأخضر، إلا أن السياسة النقدية التي تعطي الأولوية لمنع تضخم الأجور لن تؤدي إلا إلى عقد آخر ضائع يتسم بقلة الاستثمار في البشر والطبيعة حتى لو نجحت في القضاء على التضخم، في حين أن 10 سنوات أخرى من نقص الاستثمارات في التحول الأخضر ستدفع العالم إلى حافة ضرر لا يمكن إصلاح آفاقه الإنسانية.

ولكن، كيف نتعامل مع التضخم دون تعريض استثمارات التحول الأخضر للخطر؟، و ما هو البديل للحرب الطبقية التي تتمثل في سياسة سعر الفائدة الفظة التي تضغط على المعروض من الأموال في جميع المجالات إما بعنف كما يقترح دعاة الصدمة والرعب، أو بشكل أكثر بساطة؟، هنا، يجب أن نتذكر أن للسياسة البديلة اللائقة ثلاثة أهداف: أولاً ، قمع أسعار الأصول مثل أسعار المنازل والأسهم لمنع إهدار الموارد المالية الشحيحة في بناء قيم ورقية، وثانيًا، خفض أسعار السلع الأساسية مع السماح بعائدات أعلى للاستثمار في الطاقة الخضراء والنقل، وثالثًا، تقديم استثمارات ضخمة في الطاقة الخضراء، والنقل، والزراعة، فضلاً عن الإسكان الاجتماعي والرعاية الصحية.

وإذا كانت بعض البنوك المركزية بدأت في الآونة الأخيرة تنسيق استثمارات خضراء ضخمة، فإنه يتعين الإعلان عن نوع جديد من التيسير الكمي لتمويل التحول الأخضر، حتى تمنح البنوك المجتمع الفرصة لتحقيق الاستقرار المناخي المأزوم، وباختصار، فإن الاتجاه العالمي الآن هو عكس السياسات السامة التي تم تنفيذها منذ عام 2008، فبدلاً من قيام البنوك المركزية بتوفير أموال مجانية وأسعار فائدة منخفضة للأثرياء، بينما يقبع الباقون في سجن التقشف، تجني البنوك المركزية أموالاً أكثر تكلفة للأثرياء مع توفير أموال رخيصة للاستثمار في الأشياء الأساسية والاستراتيجية التي تحتاجها الأغلبية الشعبية وتستحقها بالفعل.

 

خاص_الفابيتا