العقوبات الاقتصادية في الميزان... "الحرب الروسية – الأوكرانية" نموذجاً

08/06/2022 0
د. عبدالعزيز بن محمد العواد

لا شك أن  الاقتصاد هو حياة الناس، لذلك تسعى الحكومات والنخب الحاكمة في العالم إلى توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، وتحقيق معدلات نمو وتشغيل مرتفعة، الأمر الذي ينعكس على استقرار حياة الناس والمجتمع ومن ثم لاستقرار السياسي وبقاء تلك الحكومات والنخب في سدة الحكم، ولكن على الجانب الأخر تعمل بعض الدول على اضعاف دول أخرى اقتصادياً، لإرغامها على اتباع أجندة ما أو تنفيذ رغبات وتطلعات تلك الدول الكبرى، من خلال فرض ما يعرف بالعقوبات الاقتصادية، حيث تشير إلى مجموعة من العقوبات التجارية والمالية التي يفرضها بلد أو مجموعة من البلدان ضد بلد آخر، أو مجموعة من الأفراد أو المنظمات.

وفي ظل نظام دولي أحادي القطب،  أصبحت العقوبات الاقتصادية سلاح فتاك يستخدمه الغرب بالدرجة الأولى للضغط على الدول بهدف تغييرها أو إرغامها على تغيير سياساتها وحل النزاعات معها، ومن أبرز العقوبات حظر التحويلات المالية، ونقل التكنولوجيا والتبادل التجاري، فالعقوبات الاقتصادية هي حروب بلا نار تأثيرها أقوى من البنادق تأكل الأخضر واليابس. 

فقد شنت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي حرباً اقتصادية عنيفة على روسيا ومازالت، رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا منذ  24 فبراير 2022، وهي العقوبات التي لم يسبق تطبيقها من قبل على اقتصاد بهذا الحجم والتأثير في الأسواق العالمية، فعلى سبيل المثال تعهد الاتحاد الأوروبي بإنهاء اعتماده على استيراد الغاز من روسيا بحلول عام 2030، كما تم تجميد أصول البنك المركزي الروسي، وبلغ حجم التجميد والعجز عن الوصول لمقدراته نحو 630 مليار، ومنعت بريطانيا، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المواطنين والشركات لديها من إجراء أي تعاملات مالية مع البنك المركزي الروسي أو وزارة المالية الروسية أو صندوق الثروة السيادي الروسي. 

 وقد تضمنت العقوبات إبعاد بعض البنوك الروسية عن نظام التحويل العالمي "SWIFT" الذي يسمح بتحويل الأموال بشكل سهل بين الدول المختلفة، وهو الأمر الذي يعيق قدرة روسيا على الحصول على عائدات بيع الطاقة، كما فرضت بريطانيا عدة عقوبات إضافية على موسكو من بينها استبعاد كبرى البنوك الروسية من النظام المالي البريطاني وتجميد أصول كافة البنوك الروسية، وإصدار قوانين لمنع الشركات والحكومة الروسية من الحصول على أموال من الأسواق البريطانية، ووضع حد أقصى للمبالغ المالية التي يمكن للروس إيداعها في البنوك البريطانية، وبدوره أعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض عقوبات تستهدف 70% من السوق المصرفية الروسية وكبريات الشركات المملوكة للحكومة الروسية، كما انسحبت أكثر من 500 شركة عالمية من السوق الروسي.

وتسببت العقوبات الغربية في ضرر بالغ على الاقتصاد الروسي، فقد تراجع الروبل مقابل العملات الأجنبية بمقدار النصف تقريباً بعد أيام قليلة من بداية الحرب، وقفزت أسعار الفائدة من 9.5% إلى 20% في محاولة للبنك المركزي الروسي للسيطرة على انخفاض سعر الروبل، بالتزامن مع نقص في عدد من السلع والمنتجات في الداخل الروسي نتيجة العقوبات، وهي العوامل التي من المُتوقع أن تؤدى إلى انكماش اقتصادي حاد في الاقتصاد الروسي، خاصة في ظل استمرار الحرب.

ويتبادر إلى الذهن سؤال، لماذا لم ينهار النظام الروسي أو يتراجع عن قرار الحرب مع كل هذه العقوبات غير المسبوقة؟!  

الإجابة  في اعتقادي تكمن في أن النظام الروسي يبدو أنه كان مستعداً جيداً لتلك العقوبات ، فبعد الحرب تم اتخاذ عدد من المسارات والتدابير العاجلة مثل رفع سعر الفائدة إلى 20% وإلزام المصدرين الروس بتحويل 80% من عائدتهم إلى الروبل الروسي وفرض حدود للسحب على حسابات الدولار داخل روسيا، وحظر تصدير بعض السلع، والقرار الأبرز في هذا الصدد هو القرار المفاجئ ببيع الغاز الروسي للدول الاوربية بالروبل الروسي بدلاً من الدولار أو اليورو، خاصة لو علمنا أن مبيعات النفط والغاز تدر يومياً على روسيا ما يعادل مليار دولار أمريكي،  كل هذا أدى إلى ارتفاع الروبل الروسي إلى 65 روبل مقابل كل دولار أمريكي، وهى قيمة  تفوق قيمة الروبل قبيل الحرب والذى قد كان بلغ حينها نحو 85 روبل لكل دولار أمريكي، كذلك أعلنت روسيا في رد على الشركات الأجنبية التي بدأت في التخارج من السوق الروسية بعدد من العقوبات، على سبيل المثال تدرس الاستحواذ على أصول هذه الشركات في روسيا، والتي تتخطى عشرات المليارات من الدولارات لكبرى شركات الطاقة و تضم حصصاً في مصافٍ للنفط ومعامل تكرير وخطوط للنقل والتخزين.  

وفى إطار الحديث عن العقوبات الاقتصادية لابد هنا من طرح بعض الأمور المتشابكة المرتبطة بها، فعلى سبيل المثال هل العقوبات الاقتصادية تؤدى الغرض دائماً؟ وتحقق النتائج المرجوة؟  الإجابة نجدها من خلال العديد من الدراسات التي تحلل مئات العقوبات للوقوف على نسب ومقومات نجاح هذه الآلية. وخلُصت دراسة شاملة لـ 170 من حالات العقوبات في القرن العشرين إلى نجاح ثلثها فقط في تحقيق الأهداف المرجوة منها، فالعقوبات المفروضة على إيران قد ساهمت في الوصول إلى طاولة المفاوضات وإبرام الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، لكنها لم تمنعها من تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق، بداية من منتصف عام 2019 وحتى الآن، بل إنها لوحت برفع مستوى تخصيب اليورانيوم ليصل إلى 90% في 15 يوليو 2021، كما لم تمنع العقوبات على الهند وباكستان وكوريا الشمالية من امتلاك القدرة النووية، ولم تنجح العقوبات المفروضة على روسيا في إجبارها على الانسحاب من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم منذ ضمها في عام 2014، ففعالية تلك العقوبات ليست بالدرجة التي يمكن أن يتصورها البعض وتظل فعاليتها محدودة، وإن كان ذلك لا يمنع من تأثر اقتصاديات الدول المستهدفة من العقوبة. 

كذلك كشفت العقوبات الغربية على روسيا عن مدى التحكم الكامل للغرب في النظام المالي العالمي، فنظام التحويل العالمي “SWIFT” على سبيل المثال الذي يبدو ظاهرياً مستقلاً عن سيطرة حكومة واحدة عليه أو عدة حكومات، تم إبعاد بعض البنوك الروسية عنه من قبل الحكومات الغربية، وفى حالة الإبعاد الكامل لروسيا والتي تأتى في المرتبة الثانية من حيث مستخدمي النظام عبر 300 مؤسسة مالية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ستكون العواقب قوية جدا وسوف تضع الاقتصاد الروسي والحكومة الروسية في مأزق حقيقي أكثر من باقي العقوبات الاقتصادية الأخرى، كذلك تجميد الأموال الروسية واحتياطات البنك المركزي الروسي وبعض الأفراد ورجال الأعمال ربما يعطى مؤشراً قويا لبعض الدول الأخرى وخاصة الصين أن لا أحد في أمان وكل مقدرات أي دولة ستكون في خطر محدق في حالة فرض عقوبات عليها، وبالتالي أرى أن الفترة القادمة ستشهد اتجاه العديد من الدول إلى الاستغناء عن الدولار- بدرجة ما - كملاذ أمن وتتجه إلى الذهب أو سلة من العملات. 

أخيراً، فإن العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا كشفت عن ازدواجية المعايير التي يزن بها الغرب الأمور وعن التحيز والعنصرية في التعاطي مع قضايا الشعوب، ففلسطين المحتلة لو حصلت على نصف الاهتمام والتعاطف الذي تحظى به أوكرانيا لما استمرت النكبة الفلسطينية لأكثر من سبعين عاماً، فالكيان الصهيوني يمارس الفصل العنصري والتوسع الاستيطاني ويوجه الضربات الصاروخية على الأراضي الفلسطينية منذ نحو نصف قرن ولم تحرك الولايات المتحدة وأوروبا ساكناً لردعه، في حين تم تعبئة العالم اعلامياً  واتجهت أنظار العالم نحو أوكرانيا، واتخذت الحكومات الغربية التدابير العسكرية ودعمت أوكرانيا بالسلاح ضد الحرب الروسية وفرضت العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة عليها، ولهذا يبدو واضحاً أن المواقف تتخذ لدى الغرب  وفقاً للعرق والمذهبية والبرجماتية.

 

خاص_الفابيتا