من الأولى بالرعاية؛ التخطيط الاستراتيجي أم إدارة المخاطر؟ لا شك أن كليهما مهم للغاية، لكن لا بد من ترتيب المهام، قبل أعوام عدة، كان الحديث عن التخطيط الاستراتيجي عبارة عن مفاهيم مبهمة، وكانت الإدارة عموما سواء كانت قطاعا خاصا أو عاما "إلا فيما ندر" ارتجالية سواء في تحديد الأهداف، أو بناء خطط التنفيذ.
وبدأت أفكار التخطيط الاستراتيجي تغزو المؤسسات، وتواجه نوعا من المقاومة، حتى في المؤسسات التي بدأت تقبل هذه الأفكار، كانت الخطط الاستراتيجية منفصلة تماما عن الواقع وتقف عند حدود رؤية ورسالة مع بعض الأهداف الخالية من المبادرات التنفيذية، كان الأدوات بدائية جدا عند بناء الخطط وربط المفاهيم ببعضها بعضا، فتجد الرسالة في بحر والرؤية في أرض، بينما الأهداف لا معنى لها ولا مؤشرات قياس حقيقية، وإذا ذهب البعض بعيدا، فإنه يوثق بعد إجراءات التحليل التهديدات والفرص أو ما يسمى بالتحليل الرباعي، ثم تطبع الخطة بأغلفة فاخرة وتوضع في الأدراج، وبهذا ينتهي دورها، لأعوام كانت هذه هي الحال التي تغيرت الآن بشكل واسع فأصحبت الخطط أكثر واقعية وتجد آثارها في التنفيذ، إن كانت حتى الآن لم تجد صداها في التقارير.
مع الأسف، إن واقع إدارة المخاطر يمر بالمراحل الصعبة نفسها التي مر بها فكر التخطيط الاستراتيجي، فهو حتى في التعليم الأكاديمي لا يجد تلك الفرصة من ساعات التدريس ولا التدريب، ويتخرج الطالب وهو بالكاد يعرف أبسط مفاهيم هذا التخصص المهم جدا الذي أثبت منذ لحظات انطلاق القرن الحالي أنه سيد الموقف تماما، وفي واقع الممارسات، فإن إدارة المخاطر لم تستطع حتى تجاوز مشكلة وثائق الجودة والاعتماد، فهي محصورة في تقديم وثيقة تثبت وجود دليل للمخاطر أو سجل أيا كان نوعه وشكله، وأن هناك بعض السياسات العامة، وفي بعض الجهات التي وظفت مكاتب استشارية استطاعت أن تأخذ المخاطر بعيدا نحو قرارات مجلس الإدارة لتأخذ قرارا بشأن مستويات الرغبة في مواجهة تلك المخاطر، لكن أفضل المؤسسات كما أعتقد لم تستطع تجاوز تلك الخطوة، بمعنى أن تكون عملية اتخاذ القرار عملية أخذ الخطر أو تجنبه.
ما القرار؟ القرار الذي نتخذه عموما وفي عالم الأعمال خاصة دائما ما يتعلق بتخصيص الموارد، فلا قرار دون بدائل، فإذا واجهت لحظة اتخاذ قرار فأنت أمام بدائل، أبسط تلك القرارات هي، إما المضي قدما فيما تريد أو التراجع عنه، والمضي قدما يعني التضحية بالمورد في سبيل تحقيق هدف ما، التراجع عنه يعني التراجع عن تحقيق الهدف والمحافظة على الموارد، وإذا كان هناك أكثر من بديل كأن يكون هناك أكثر من فرصة، مثل قرار شراء سهم في السوق المالية، فإن كثرة البدائل تضع الشخص أمام تحدي تخصص الموارد المحدودة على الفرص الكثيرة، هنا بالذات تلعب إدارة المخاطر دورها الكبير في توجيه القرار نحو تخصيص الموارد. ولقد سنحت لي فرص عديدة لتدقيق ومراجعة وتقييم قرارات عديد من مجالس الإدارات، ووجدت أن القرارات تتخذ دون تقديم تقييم حقيقي وجاد للمخاطر، بل إن ذلك يتم بشكل عشوائي أثناء الاجتماع، فالجميع يدرك وجود المخاطر، لكن آليات مناقشتها وتأثيرها في القرار تظل علمية مشوشة جدا. وكما أشرت، فإن إدارة المخاطر تمر اليوم بالصعوبات نفسها التي مر بها التخطيط الاستراتيجي، وسيمضي وقت كبير قبل أن تصبح هي العلامة الفارقة بين النجاح والفشل، والفناء والبقاء.
إدارة المخاطر تقوم على دراسة الاحتمالات، احتمالات وقوع الحدث الخطر وتأثيره في تحقيق الأهداف، وتأثيره في الموارد المحدودة، من دون ذلك، فإننا قد ننفق الأموال لتجنب خطر لو وقع لكانت آثاره أقل خسارة من خسارة الأموال التي أنفقناها، وفيما لو تم قياس تكلفة الفرص البديلة، فإن الخسارة ستكون أكبر من التهديد الذي تجنبناه. إذا كانت هذه النقطة واضحة بما يكفي، فإن التخطيط الاستراتيجي الذي يضع أهدافا لم يدرس مخاطرها بشكل جيد قبل أن يخصص لها موارد هو تخطيط مقلق جدا، فالتخطيط الاستراتيجي وبمجرد اعتماده ينطلق في الأعمال، بينما تأتي إدارة المخاطر كالذي يسعى من أقصى المدينة، فكيف يستجاب له؟ وقد انطلقت العجلة ومن سيقتنع بالاحتمالات التي تقدمها المخاطر، وهي لم تزل في نظر مجالس الإدارات مجرد احتمالات؟
قد يمضي وقت قبل أن يكشف الجميع حجم الموارد التي أنفقت في أهداف كان يمكن تحقيقها بمجرد دراسة بسيطة للمخاطر تتم أثناء أو قبل التخطيط الاستراتيجي، ولي في مؤسسات عريقة بنت مقارا في مناطق وعرة خير شاهد على أن دراسة المخاطر أثناء التخطيط الاستراتيجي تعني الفرق بين النجاح والفشل.
نقلا عن الاقتصادية