هناك قاعدة اقتصادية تحكم في كل الظروف، "الاحتياجات أكبر من الموارد"، وهناك أيضا نص قديم للفيزوقراطيين، يقول إنه إذا زاد حجم الأسرة لا بد من زيادة حجم الأرض الزراعية. والفيزوقرطيون، لمن لا يعرفهم، هم مجموعة من العلماء الذين تحدثوا عن الاقتصاد قبل "آدم سميث"، أي قبل الرأسمالية، وكانوا يرون الأرض والزراعة هي فقط التي تنتج الثروة للأمم وكل من عليها، لكن ظهور المصانع أفسد على الفيزوقراطيين جمال نظريتهم ورومانسيتها، والمعنى الصحيح الباقي من تلك الحقب القديمة حتى الآن "أن زيادة تعداد السكان بينما الموارد عند مستواها نفسه يعني حدوث مشكلة اقتصادية". وفي المملكة، تزايد عدد السكان من عشرة ملايين قبل ثلاثة عقود من الزمان إلى أكثر من 30 مليونا في هذا العقد، ولقد عمل النفط كمورد اقتصادي عزز الثروة ونماها عند الجميع، وحقق كل منتجات التنمية التي نحياها اليوم، وحتى مع ارتفاع أسعار النفط قريبا من 75 دولارا، فإن النفط لم يزل موردا اقتصاديا ضخما قادرا على منح الاقتصاد السعودي زخما كافيا لمقابلة متطلبات التنمية، لكن ذلك ليس مستداما مع الأسف، فالسوق تتقلب كثيرا، وهي تفعل ذلك بوتيرة أسرع من قبل، وهذه التقلبات لا شك تؤثر سلبيا في اتخاذ قرارات مستنيرة. لذلك، لا مفر من إعادة اكتشاف الموارد والتركيز أكثر على ما يعظم الإنتاج، هذه هي القاعدة.
ثروة الأمم كانت في حقبة الفيزوقراطيين هي الذهب، ذلك الذي تنتجه الأرض، ويبحث عنه المنقبون في أعماقها، لكن ذك المفهوم تغير تماما بعد رأسمالية "سميث"، فالثروة يمكن أن تنتج أيضا من مصنع المسامير، ولقد تبين لاحقا أن الناس بحاجة إلى المسامير كمثل حاجتهم اليومية إلى الذهب، لهذا كانوا على استعداد تام لمقايضة الذهب الذي معهم من أجل الحصول على المسامير، وبهذا تغيرت مفاهيم الثروة تماما، لقد تبين أنه يمكن إنتاجها وليس اكتشافها، والفرق كبير جدا، وأصبح تعظيم الإنتاج هو المفهوم الأكثر حضورا في العالم وتبدلت معه مفاهيم الاقتصاد والإدارة ونصوص القانونيين والعلاقات التعاقدية. تعظيم الإنتاج ذلك المفهوم الذي جعل الحكومات في العالم الغربي تتوارى أمام قوة حضور القطاع الخاص، حتى حدثت أزمة الكساد الكبير عندما فاق الإنتاج قدرة المجتمع على شرائه، وتكدست البضائع وأفلست الشركات، وفي تلك الفترة بالذات كانت مفاهيم البيروقراطية مع الإدارة العامة الكلاسيكية في أوج ازدهارها، وهي تقدس الإجراءات وفرضها بقوة النظام، وبفعل الكساد وتحت ضغط تفسيرات "كينز" تسللت تلك البيروقراطية إلى المالية العامة لتضع مفهوم تعظيم الإنفاق العام كقاعدة أساسية من أجل التنمية، ثم تعاظم ذلك الدور مع ظهور "الكينزية كمذهب اقتصادي" وأصبح تعظيم الإنفاق العام ضرورة لتعظيم الإنتاج، وبدا مفهوم الثروة غريبا جدا، فكلما تعاظم الإنفاق العام تناقص حجم الثروة بفعل التضخم، وتقليص الإنفاق العام يتسبب في عدم توازن الاقتصاد وحدوث التباطؤ ثم الكساد. لقد تبين أن مكينة الإنتاج التي وصفتها الرأسمالية تحتاج إلى وقود من الإنفاق العام، ولكن من أين تأتي الحكومات بالمال الكافي لتعظيم الإنفاق وضمان بقاء عجلة الإنتاج تعمل.
الجميع يقر أن الضرائب هي المصدر الأساس للمالية العامة، ومنه تنفق على الاقتصاد وتدعم التوازن، لكن الضرائب مصدرها ما يحققه القطاع الخاص من إيرادات، ولتعظيم الضرائب لا بد أولا من تعظيم إيرادات القطاع الخاص، ولتعظيم إيرادات القطاع الخاص لا بد من بقاء قوة الشراء العامة كبيرة وكافية، وهذا يعني بقاء المالية العامة في نمط معين من الإنفاق العام. إنه التوازن، ومعادلة من رقمين بينهما علامة المساواة.
لكن من الغريب جدا في هذه المعادلة أن حجم القطاع الخاص هو المحرك وليس الإنفاق العام كما قد يبدو. وحجم القطاع الخاص هنا ليس في العدد فقط، بل من خلال توظيف أكبر عدد من الناس. وإذا عدنا إلى نظرية الفيزوقراطيين عن زيادة حجم سكان الأرض الزراعية، فإننا نقول زيادة السكان تتطلب زيادة أعداد المحال التجارية والمصانع، ولكن بقدر ما يكون لهذه المصانع من قدرة على توظيف الناس، أما إذا كانت هذه المصانع والمحال تعمل من خلال التقنية والعمالة الرخيصة، فإنها ستعظم ثروة الملاك فقط، وهو ما ينتج عنه أسوأ مفهوم اقتصادي يعيشه العالم اليوم، وهو عدم المساواة Inequality. ومع قدرة هذه المؤسسات على دفع ضرائب للمالية العامة التي تنفقها من جديد على المجتمع لدعم الشراء، ومع مرور الوقت وكلما اكتملت دورة أعمال كاملة، تزايد حجم الثروة عند الأقلية المالكة وبقيت أعداد المحال التجارية والمصانع عند حجمها الأول، بينما تناقص عدد العمال الذين يجدون فرص عمل، وتزايد حجم الفقر كلما زاد عدد السكان، وتحملت الحكومة الصرف على العاطلين، للمحافظة على التوازن.
وإذا استمر الحال هكذا، فقد تتعثر المالية العامة نتيجة الأزمات الاقتصادية، مثلما يحدث في عدد من دول أمريكا اللاتينية الآن، فإن قدرة الناس على الشراء تتراجع مهما كان حجم الإنفاق، لأنهم عاطلون عن العمل، ثم تتراجع إيرادات القطاع الخاص وتتراجع حصيلة الضرائب ويتراجع الإنفاق، وهكذا في أزمة لا حل لها.
هذا الوضع يحدث عندما لا يراعي الملاك الرئيسيون في القطاع الخاص والتنفيذيون هذه العلاقات بشكل جيد، ومن ثم ضمان توازن داخل القطاع الخاص بين العائد على حقوق الملاك وبين العائد على العمال، ومثل هذا يقال بشأن كل الجهات التي تتحول اليوم نحو نظام العمل مع الموظفين بدلا من نظام الخدمة المدنية.
هناك اليوم توجه في القطاع العام يؤيد فكرة الإدارة العامة التي تتبنى مبادئ إدارة الأعمال، وإذا كان من الممكن تطبيق بعض المبادئ بسهولة، لكن القياس الدقيق للعلاقة بين ما يستحقه العمال من تعويضات وبين حجم إسهامهم في الإنتاج يظل صعبا جدا في القطاع العام، ولذا فإن عدم المساواة التي تعانيها إدارة الأعمال قد ينتقل بسهولة إلى الإدارة العامة.
بالعودة إلى الأهداف الرئيسة من عمليات إعادة هيكلة الاقتصاد، فإن تحديد حجم بند الرواتب في ميزانية أي جهة تريد التحول، هو الخطوة الأساس، وعلى تلك الجهة بعد ذلك أن تقوم بتحديد حجم العمال المطلوب للإنجاز، أن توزع بند الرواتب بين الموظفين بطريقة آمنة بناء على حجم العمل والإسهام والمسؤوليات.
نقلا عن الاقتصادية