أصبحنا نتعرض لمشكلات مالية بشكل يومي، لم يعد هناك استثناء، ليس على مستوى الأفراد فقط بل الأسر والمؤسسات بشتى أشكالها. قبل أشهر عدة استطاع موظف في مؤسسة لبيع الملابس أن يخادعني في دفع فاتورة مرتين، بحجة انقطاع الاتصال في شبكة المدفوعات، لم أجد حلا حتى اليوم لاسترداد مالي، غير اللجوء للمحكمة، لقد تحول قرار شراء بسيط جدا إلى قضية في المحكمة، وأعرف شخصا عليه أحكام تنفيذية وتعليق حسابه في البنك لأنه استخدم تطبيقات (الفنتك) في التمويل، لقد تساهل الإجراءات فهي لم تتجاوز بعض الرموز التي ترسل على جواله ليجد في حسابه مبلغا ضخما، وزميل آخر لم يكن عليه من الدين شيء أصبح راتبه يذوب في سداد أقساط تطبيقات (البيع بالأجل)، نحن اليوم في موج من الأزمات المالية لأن المال أصبح سهلا ولأننا كبشر نظن في اللاشعور أن السهل لا مسؤولية كبيرة معه. المشكلات المالية مرتبطة بنوعية النقد الذي نتعامل به، ففي زمن قديم كانت النقود السلعية (الريال الذهبي مثلا) والمشكلات المالية انحصرت معها في صعوبة الحصول على المال، أو في غشه، ثم تطورت الأمور حتى ظهرت النقود الائتمانية ومنها النقود الورقية.
فأصبح الحصول على النقد متوفرا لكن ظهرت مشكلة في قيمته، فالأسعار ترتفع كلما حصلت عليه، وبرغم وفرته فلم يكن الحصول عليه سهلا فهو يأتي بعمل شاق أو بقرض صعب، فالسياسات الائتمانية صعبة، لكنها ساعدت الناس على اتخاذ مراجعة قرارات الاقتراض وكذلك قرارات الشراء، نتذكر مثلا أن الحصول على قرض شخصي بسيط كان يتطلب ضمانات كبيرة، والفوز بسيارة بالأقساط يحتاج كفيل شجاع من أصحاب ملاءة، فلم يكن هناك قلق على أبنائنا وبناتنا من المال ومسؤولياته لأنه صعب المنال برغم وفرته، لكن اليوم تغيرت الصورة تماما، أصبح المال متوفر بكثرة، وبأشكال مختلفة، وأصبح الحصول عليه سهل بطريقة لم تحدث في التاريخ، ومع وفرته وسهولته لم يعد هناك شعور بالمسؤولية نحوه، المال لم يعد ذهبا بالكاد تحمله، ولم يعد ورقا لا تعرف كيف تخفيه، بل أصبح مجرد رقم إلكتروني في جوالك، يمكنك أن تحصل عليه بمجرد أنه يرسل لك من أي جوال آخر. لهذا نحن في أمس الحاجة إلى تعليم أبنائنا ثقافة المال ومسؤولياته منذ دخولهم للمرحلة المتوسطة وهي المرحلة التي يمكنهم الحصول على هويه وطنية تتبعها مسؤوليات.
إذا حصل الشخص على هوية وطنية، فإنه يصبح مسؤولا عن قراراته في نظر القانون، ولو اختلف حجم هذه المسؤولية وتبعاتها، ومن ذلك مسؤوليته عن قرارات وتصرفاته المالية، فهو قادر على الحصول على هاتف محمول بكل بساطة، وبمجرد الحصول على رقم جوال فهو قادر على الوصول إلى عديد من التطبيقات المهمة ومن بينها تطبيقات ذات طبيعة مالية أو تحتاج لقرارات مالية، وفي سن الـ18 يستطيع الحصول فورا على حساب بنكي، والوصل لتطبيقات مالية تقدم خدمات مختلفة قد يكون من بينها الحصول على قروض أو الشراء بالتقسيط قد يحصل على كل هذا وأنت تجلس بجانبه لا تعلم شيئا، فالوصول إلى المال سهل جدا يشعر الابن بعدم المسؤولية، هناك ما هو أبعد وأكثر خطورة مثل تفويض الآخرين وإصدار الوكالات، وهي أمور لها آثار مالية متعدية. وهذا كله في وقت تغيب تماما أي وسيله لتعليم الأبناء والبنات الثقافة المالية والمسؤولية التي تصاحبها.
لكن هل هذه المسألة مهمة؟ إجابتي إنها مهمة جدا، بل من أخطر القضايا التي تواجه أبنائنا اليوم. عندما يحصل أبنك أو ابنتك على رقم جوال وهوية وطنية فهم معرضون للاحتيال بسهولة جدا، حتى وأنت تجلس بجواره لن تتمكن من حمايته، اتصال من صديق يبدو مخلصا أو قريب يظهر وكأنه محتاجا، يطلب من ابنك أو ابنتك (فقط) قبول البيانات من خلال برنامج نفاذ، ليسمح بالوصول إلى تطبيقات في غاية الخطورة ومن بينها الوكالات، وبالموافقة على القروض، والتمويل. انتهاك الخصوصية المالية لا يقل خطورة اليوم عن انتهاك الخصوصية البدنية، هذه المسؤوليات الجسمية التي تلقى على اكتاف ابناءنا بمجرد حصولهم على ارقام الجوالات تتطلب بناء ثقافة المسؤولية والثقافة المالية وما يترتب عليها من تبعات. وهذه مسؤولية التعليم أولا وأخيرا.
نقلا عن الاقتصادية