الاقتصاد العالمي.. وحروب ما بعد اللقاحات

27/04/2021 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

تتشكل في الوقت الراهن ملامح صراع طويل الأمد بين القوى العالمية المختلفة على أحقية الاستئثار باللقاحات التي طوَّرتها شركات الأدوية الكبرى.. صراع لن ينتهي حتى بانتهاء الجائحة، لكنه سيمتد لينال من كافة القطاعات الحيوية للاقتصاد العالمي، وللتدليل على ذلك، يكفي تدقيق النظر إلى قارات العالم لرصد وتيرة توزيع اللقاحات التي تثير الشفقة والأسى، وتشير إلى حقيقة مفزعة هي أن عرض اللقاحات قد لا يتواكب مع الطلب حتى عام 2023، ويالها من فترة انتظار قاسية وطويلة للغاية، إذ أن حياة المليارات وخبزتهم اليومية في خطر مستمر.

لكن الأسوأ، هو أن نقص التطعيمات قد يؤدي إلى تفشي سلوكيات معيبة ومجرمة في العديد من الدول، بعدما تعثَّرت الجهود المبكرة لتنسيق الإنتاج العالمي وتأمين اللقاحات للجميع دون استثناء، حيث حرصت الدول الكبرى منذ بداية الجائحة على تأمين طلبيات كبيرة، ومارست ضغوطاً على شركات الأدوية العالمية لمنحها الحقوق الأولى للإنتاج والإمداد، وبعد استشعار الحرج وانتقادات أممية، بدأت الدول المتقدمة تتخلى عن بعض أنانيتها فتعهدت بالتعاون طويل الأمد في سبيل إتاحة اللقاحات لجميع الدول، إلا أن أفقرها سيظل عاجزاً عن تمويل شراء اللقاحات، ومن ثم توزيعها مجاناً على مواطنيها.

بناءً على قاعدة "من يجد لقاحاً يحكم العالم"، اعتمدت بريطانيا والولايات المتحدة سياسة تجارية قاسية أملَتها حاجة المواطنين، ولهذا عزمتا على توفير التطعيمات بأية وسيلة، وأبرمت كلا الدولتان تعاقدات سرية مع مُصنِّعي اللقاحات، وأشهرت واشنطن في وجه منتقديها "قانون الإنتاج الدفاعي" الذي يمنحها أحقية فرض حظر على تصدير اللقاح بداعي الأمن القومي، في حين سلكت دول أخرى مثل الصين وروسيا اتجاهاً آخر مختلفا لكنه حازم بالقدر نفسه، وهو استخدام اللقاحات باعتبارها أداة دبلوماسية فعالة لاكتساب المزيد من النفوذ الدولي.

كانت الأزمة كاشفة، فقد نحت الدول الديمقراطية المبادئ الليبرالية جانباً لصالح القيود التجارية الشرسة؛ بُغية الاستجابة لمتطلَّبات الداخل المحلي، الأمر الذي يهدد بتمزيق تحالفات دولية عجوزة مرتكزة على المصالح، ولأول مرة نرى كيف تتدخل الدول الرأسمالية في السوق المفتوحة بدرجة غير مسبوقة في الذاكرة الحديثة، وقد تبحث دولاً أخرى، مستقبلا، عن طرق مشابهة لحماية نفسها، والنتيجة هي تقويض الثقة في قوانين السوق المفتوحة التي يتم التلاعب بها، لكن يجب إدراك أن الدول القوية ربما تتشاجر على مُخصَّصات اللقاح قصيرة الأمد، إلا أنها تتفق فيما بينها على توزيع القوة السياسية والاقتصادية طويلة الأمد.

والواقع أن قادة أمريكا والاتحاد الأوروبي على وجه التحديد يستجيبون لتحوُّل جذري في تقديم الحوافز السياسية للناخبين، إذ يعتقد الأمريكيون والأوروبيون بقدرتهم الفائقة على تفويض أي قرار اقتصادي حساس بشأن العرض والطلب عبر توصيفه ضمن فزاعة "الأمن القومي"، لكن، بالرغم من أن هذه الحكومات وضعت معايير أمان للشركات الدوائية، وساومت أحياناً على الأسعار من أجل برامجها للرعاية الصحية، إلا أنها مع ذلك، ولحسن الحظ تركت بعض إدارة سلاسل الإمدادات في يد القطاع الخاص.

يُحمِّل الغربيون قادتهم المسؤولية المباشرة عن إخفاقات عقود الشراء وتعقيدات سلاسل إمدادات اللقاح، وهي مهمات كان السياسيون في السابق قادرون على إسنادها إلى مصادر خارجية عندما لم تكن هناك جائحة بشرية تحصد ألاف الأرواح، ولهذا فإن المعادلة هي أنه إذا أراد السياسيون إعادة انتخابهم، فإنهم بحاجة إلى إدارة الملف شديد التعقيد والمتمثل في شراء اللقاحات وتخزينها وشحنها والتأكُّد من أنها حُقِنت في أذرع الشعب، أما الأخطاء التي تقع بسبب توقيع عقود سابقة مع شركات مُصنِّعة للقاح لا تفي بموعد تسليمها فقد تُكلِّف المسؤولين الغربيين خسارة مناصبهم في لحظة.

من هنا يتضح سبب تلكؤ بعض الدول المتقدمة في تصدير اللقاح، فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، تردَّد قبل الكشف عن تصديره عشرات الملايين من الجرعات، إذ شعر بالقلق من أن تُشعِل هذه الأخبار فتيل الغضب بين الأوروبيين التوَّاقين للقاح، أما الولايات المتحدة التي تملك عشرات الملايين من الجرعات، فقد تملَّصت بصورة كبيرة من التبرُّع بجرعات اللقاح حتى تنتهي من تحصين مواطنيها، بينما وافقت على مشاركة بعض الجرعات مع جارتها المكسيك، بعد تنازلات من الحكومة المكسيكية، وأزمة إنسانية متصاعدة على الحدود الأمريكية- المكسيكية، واللافت أن واشنطن لم تُقدِّم حتى الآن أي جرعات لحلفائها الأوروبيين رغم طلباتهم المتكررة.

في المقابل، صدَّرت الصين، لقاحها "سينوفاك" لدول في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، كما اعتمدت سياسة تأشيرات جديدة للزوار الذين تحصَّنوا بلقاح "سينوفاك"، ورغم انتقادات الدول الغربية للنهج الصيني، إلا أن بكين تبدو غير راغبة في عرض لقاحاتها الجاهزة للاستخدام باعتبارها بديلاً، ومن المؤكد أن عواقب الرقابة على تصدير اللقاحات ستكون لها تداعيات طويلة الأمد، إذ يعي القادة السياسيون حالياً أن الحصول على اللقاح مهم للأمن القومي، وأن الإمدادات العالمية لا يمكن الوثوق بها في أوقات الأزمات، وسيُعيد هذا الأمر تشكيل العلاقات الدولية، ولهذا تريد كل الدول تقريباً تدشين تصنيع محلي حتى لا تضطر للتزاحم على اللقاح مرة أخرى. 

 

خاص_الفابيتا