الصين.. اقتصاد رأسمالي تقوده الدولة

19/04/2021 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

لم يكن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية قبل 20 عاماً حدثاً عادياً، فقد حظي بإشادة دولية واسعة، لكن بعد عملية الانضمام بسنوات قليلة بدأت الولايات المتحدة والغرب في توجيه الاتهام للصين بانتهاك معايير التجارة، وحجتهم في ذلك، أن بعض الأقاليم الصينية النشطة في الصناعة والتصدير أفلتت من التدقيق المباشر لمنظمة التجارة، وتشبه الدول الغربية هذا الأمر بـ "اللعب على أرضية غير مستوية" ويقصدون بذلك المنافسة الشريفة في الاقتصاد، والحقيقة أن كثرة الأقاليم الصينية تجعل من وقوع التجاوزات أمراً حتمياً ومتوقعاً، إذ أن قدرة السلطات المركزية على ضبط التبادلات التجارية في الأقاليم المختلفة، وسيطرتها بشكل كامل على المعابر والحدود، وإشراف مصلحة الجمارك على كافة عمليات الاستيراد والتصدير يجعل من احتمالية التحايل على التجارة الحرة أمراً ضئيلاً جداً.

تتيح قواعد منظمة التجارة للصين هامشاً معتبراً لدعم الصناعة ومساعدة الشركات الوطنية والتمييز ضد المستثمرين الأجانب، حيث تتمتع الصين بوصف "دولة نامية" وفقاً لتعريف منظمة التجارة، الأمر الذي يمنحها معاملة خاصة وتفضيلية، ولطالما أثار هذا الوصف حفيظة واشنطن، بينما تدافع الصين عن نموذجها الاقتصادي بأن المعونات العامة موجودة إلى حد كبير في الولايات المتحدة تحت شكل دعم البحوث ورعاية الحكومة لمؤسساتها، واتقاءً لموجة الانتقادات الغربية، قللت السلطات المركزية بشكل كبير من تشوهات السوق وخفضت الإعانات غير المعقولة تمهيداً للانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، لكن هذا التحول قد يستغرق عدة سنوات.

ستبقى منظمة التجارة ميداناً للمعركة بين القوى العظمي، ولن يتوقف سيل الانتقادات الليبرالية للنظام الشيوعي، فالتاريخ يعيد نفسه، إذ تقوم بكين حالياً بذات الدور الذي قامت به الدول الغربية عندما أطلقت نموذجاً للعولمة، فوضعت معايير تستهدف حماية مصالحها وشركاتها الوطنية الخائفة من التنين الصيني، ومع ذلك، فإن قدرة الغرب على فك ارتباطه بالصين يعتمد على تحقيق استقلالية سلاسل التوريد والصناعات التحويلية؛ وهو أمر صعب المنال في الوقت الحالي، ولهذا سيظل الغرب مرتهناً لواردات الصين لعدة سنوات قادمة.

ربما لا يعلم البعض أن الصين عندما انضمت إلى منظمة التجارة عام 2001 قبِلت بشروط صارمة أكثر من أي عضو آخر، لدرجة أن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وصف الحدث بأنه "أهم فرصة أتيحت للولايات المتحدة لإحداث تغيير إيجابي في الصين منذ السبعينيات"، فقد تعهدت بكين وقتها بإجراء تخفيضات كبيرة على التعريفات الجمركية، وتنفيذ إصلاحات شاملة تتيح حرية أكبر لقوى السوق، وضمان حماية حقوق الملكية الفكرية، والسماح للشركات بقدر أكبر من الاستقلال الذاتي والحد من التدخل الحكومي في شؤونها، وتجديد اللوائح لجعل الحوكمة أكثر شفافية.

من الطبيعي أن تولد مثل هذه الالتزامات الصارمة توقعات واسعة بربط الاقتصاد الاشتراكي الصاعد أكثر بالعولمة والشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، لكنها آمال لم تتحقق، بنظر الغرب، إلى يومنا هذا، إذ لا تزال الصين ملتزمة ببعض قواعدها الخاصة، مستفيدةً من الانقسام الغربي إزاء مشروع الوحدة الأوروبي، والثغرات التجارية التي خلفها صانعي السياسات الساذجين في الغرب، والواقع أن النموذج الصيني لم يخطو بشكل كامل نحو ليبرالية السوق، وإنما تشبّث بدلًا من ذلك بشكل من أشكال رأسمالية الدولة أو تطبيق النموذج الاشتراكي على الطريقة الصينية، فاقتحمت المنتجات الصينية بسلاسة ويسر الأسواق الأمريكية والأوروبية.

شكل انضمام الصين إلى منظمة التجارة حافزًا للمعسكر الصيني المؤيد لتحرير السوق، فيما كان البعض الآخر معادياً له، وبالتالي أسفرت المواجهة عن مجموعة من الجهات الفاعلة التي تسعى وراء مصالح مختلفة وأحيانا متناقضة، لكن عملية الانضمام عززت في المجمل موقف الإصلاحيين، الذين نفذوا في السنوات القليلة الأولى بعد نيل العضوية تخفيضات كبيرة في تعريفات الاستيراد، وخففوا قواعد التراخيص التجارية لإدخال المنافسة المحلية الخاصة والأجنبية، وقلّصوا القطاع المملوك للدولة، وعزّزوا أداء قوى السوق في الاقتصاد، بينما رسّخت سلطات بكين قانونية حماية حقوق الملكية الفكرية لتسهيل التنبؤ باحتياجات السوق الصينية والحد من التدخل الحكومي.

رغم أن عملية تحرير الاقتصاد الصيني لم تتوقف عند الإصلاحات القانونية والمؤسسية؛ وإنشاء مراكز للبحوث والاستشارات بشأن إجراءات وقواعد منظمة التجارة، إلا أن جهود تحرير السوق قوبلت بمقاومة بيروقراطية وصناعية؛ فقد خشي العاملون في القطاع العام من أن تسحق المنافسة الأجنبية شركاتهم، وشعرت الوزارات القوية بالقلق مخافة أن تؤدي العولمة الاقتصادية إلى تقويض استقلاليتها في وضع السياسات العامة، أما القطاع الزراعي، فاحتج على انفتاح الأسواق الصينية على السلع الزراعية المدعومة من الحكومات الغربية.

اللافت، أن سلطات الأقاليم الصينية المزدهرة صناعياً أفلتت من الرقابة المباشرة لمنظمة التجارة، وهذه أحد الأشياء التي تثير حفيظة الغربيين والأمريكيين تجاه الصين، إذ حرصت الحكومات الإقليمية على الموازنة بين نمو اقتصاداتها، ومواجهة تهديدات الاستيراد من الخارج، والسعي لتحقيق أقصى مكاسب للتصدير، ويمكن القول بأن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 كانت كاشفة بشكل كبير، فقد عززت العودة إلى تدخل الحكومة الصينية في الاقتصاد، في الوقت الذي سلطت فيه الضوء أكثر على مواطن ضعف رأسمالية السوق الحرة. 

 

خاص_الفابيتا