لا تستشري تعاملات المضاربات في أي نشاط اقتصادي رئيس، إلا وتبعها آثار عكسية على ذات النشاط والاقتصاد، وترتب على اتساعها كثير من التحديات في وجه أغلب السياسات والبرامج الهادفة إلى تحقيق النمو المستدام، وتحسين بيئة الاستثمار، ونمو الوظائف، عدا ما تتسبب فيه من اشتعال فتيل التضخم وتآكل القيمة الحقيقية للدخل، وهي المرحلة الثانية أو النتيجة التي سيترتب عليها اتخاذ إجراءات تالية لم يكن محسوبا لها، كالاضطرار إلى زيادة الإنفاق والدعم المعتمد على الاقتراض المستمر، وزيادة مستويات الديون على اختلاف أنواعها، واختلاف المتحملين لها، والدخول من ثم في طريق طويل يتطلب سداد مستحقاتها لفترات زمنية طويلة جدا، وتتحمل الفترات المستقبلية للاقتصاد أعباء أكبر تراكمت على كاهله من فترات زمنية سابقة، وعوضا عن أن يتم توظيف المقدرات والإمكانات المستقبلية المحتملة في زمانها، سنجد أن جزءا كبيرا منها سيكون معنيا بمعالجة آثار سابقة على حساب استغلال الفرص الناشئة، وقد تستمر عجلة الإجراءات الاستثنائية لمعالجة تلك الآثار، وتفويت جزء كبير من استغلال تلك الفرص، نظرا للانشغال بمعالجة آثار الماضي على حساب الاستغلال الأمثل للفرص الحاضرة.
تعد المضاربات الجارية الآن في السوق العقارية المحلية مثالا واضحا على ما تقدم ذكره، والتأكيد أنه يجب التفريق بين تدفق الأموال والثروات على تعاملات المضاربة على الأراضي البيضاء من جانب، ومن جانب آخر تدفقها على تأسيس المشاريع العقارية وقطاع التشييد والبناء، وما ينتج عنها من تشغيل لعشرات الأنشطة الاقتصادية الأخرى التي تنعكس إيجابيا على النمو الاقتصادي المستدام، ونمو الوظائف، وأن النوع الأول ممثلا في زيادة حدة المضاربات كما أنه يلحق الضرر بالاقتصاد الوطني، فإن المشاريع العقارية وقطاع التشييد والبناء هما أيضا في مقدمة المتضررين من تصاعد وتيرة تلك المضاربات على أراض، ومجرد تدوير الأموال والثروات عليها، والدخول في حلقة مفرغة من صعود أسعارها السوقية، وما يترتب عليه من ارتفاع مطرد لتكاليف تطوير تلك الأراضي لاحقا على قطاع التطوير العقاري، والاضطرار إلى رفع أسعار بيعها على المستهلكين، والاضطرار أيضا إلى رفع التمويل اللازم سواء على المطورين أو المستهلكين، وهي بالطبع الآثار العكسية التي خلفت سلبياتها على النمو الاقتصادي عموما، وعلى قطاع التشييد والبناء خصوصا.
لقد ظهر تأثير ما تقدم ذكره بشكل واضح وجلي في أداء قطاع التشييد والبناء، الذي سجل متوسط نموه خلال الفترة 2016 ـ 2020 تراجعا بنسبة 1.2 في المائة، كأدنى متوسط أداء منذ 1986 ـ 1990، وامتد تأثيره إلى متوسط النمو الحقيقي للاقتصاد الوطني الذي سجل بدوره تباطؤا خلال الفترة نفسها بنسبة 0.1 في المائة، وإلى متوسط النمو الحقيقي للقطاع الخاص بمعدل متدن بلغ 0.8 في المائة، هذا إضافة إلى عديد من الآثار العكسية الأخرى التي خلفتها تلك المضاربات الحادة على السوق العقارية والاقتصاد، ودون إغفال لدور بقية التحديات الأخرى التي اقترنت بالفترة الماضية، إلا أن ارتفاع كعب المضاربات أسهم بشكل رئيس في تراجع نمو قطاع التشييد والبناء خلال فترة زمنية اكتظت بكثير من التحديات، ورغم أنها كانت حاضرة بصورة ملموسة خلال العقد الذي سبق فترة الخمسة أعوام الماضية، وما تسببت فيه من تباطؤ متوسط نمو قطاع التشييد والبناء من 7.3 في المائة خلال 2006 ـ 2010 إلى نحو 6.7 في المائة خلال 2011 ـ 2015، إلا أن تصاعد وتيرتها خلال الخمسة أعوام الماضية، وما ترتب عليه من عودة قوية لتضخم أسعار الأراضي خلال 2019 ـ 2020، وارتفاع تكلفة التطوير والتشييد والبناء على كاهل المطورين العقاريين، وانتقال أثره إلى المستهلكين بارتفاع تكلفة شراء منتجات التطوير، وارتفاع حجم التمويل اللازم لإتمام تلك العمليات، كل هذا خلف كثيرا من الأعباء على كاهل الأطراف كافة، ولهذا جاءت النتائج عكسية كما تثبته مؤشرات أداء قطاع التشييد والبناء.
إن الأمر يتجاوز مجرد التصدي لتلك المضاربات لأجل الحد من حدوث تضخم غير مبرر للأسعار، إلى ما هو أبعد من كل ذلك بمسافات أبعد، كونه يستهدف حماية مقدرات الاقتصاد الوطني من أي مخاطر أو آثار عكسية، قد تتسبب في إضعافها والحد من استغلالها كما يجب، وتوظيفها في اتجاه تحقيق نمو مستدام، وتحسين بيئة الأعمال والاستثمار محليا، وتأهيلها إلى المستوى الذي تنجح من خلاله في اجتذاب مزيد من تدفقات الاستثمار محليا وخارجيا، وتوظيفها من ثم في زيادة تنوع قاعدة الإنتاج المحلية، وزيادة الفرص الوظيفية بأعداد كافية أمام مئات الآلاف من الباحثين عن فرص عمل، والعمل الدؤوب على طريق خفض معدل البطالة بين صفوف الموارد البشرية المواطنة، والمضي قدما على طريق تحسين مستويات المعيشة لأفراد المجتمع، وتحقيق كثير من الأهداف التنموية المشروعة.
إن نمو الاقتصاد الوطني ومختلف قطاعاته ونشاطاته، يعني تحقق أغلب ما نصبو إليه جميعا من أهداف تنموية مشروعة، بينما لن يجني الاقتصاد ولا المجتمع أي مكاسب تذكر من صعود أسعار الأراضي بأي نسبة كانت نتيجة المضاربات عليها، بل على العكس تماما، كلما قفزت تلك الأسعار بنسبها الفلكية الراهنة جاء ذلك على حساب نمو الاقتصاد، وحساب المجتمع والقطاع الخاص، وحساب مستقبلنا جميعا الذي نعمل جميعا على النهوض به وتحسينه لأجل الأجيال الراهنة ومن سيأتي بعدنا من أجيال.
نقلا عن الاقتصادية