على مدى عام وأكثر، أثبتت المشروعات الصغيرة والمتوسطة، أنها الأكثر تضرراً من التداعيات الاقتصادية الكارثية لوباء كورونا، فقد أسفرت إجراءات الإغلاق غير المسبوقة عن اضطرابات في خطوط التوريد والتوزيع وتهاوي الطلب في معظم القطاعات، إلا أن اللافت في الأمر هو تلك الطريقة الدفاعية التي نفذتها بعض الشركات الصغيرة من أجل البقاء على قيد الحياة، وتفادي الخروج من السوق، والإفلاس، ومواصلة لعب دورها الحاسم في خلق وظائف لائقة وتحسين سبل العيش للكثيرين، معتمدة على تجهيز بيئة أعمال مواتية، وايجاد سبل جديدة للوصول إلى التمويل والمعلومات والأسواق.
وفقًا لبيانات المجلس الدولي للشركات الصغيرة، فإن الشركات الصغيرة والمتوسطة، الرسمية وغير الرسمية، تشكل أكثر من 90٪ من مجمل الشركات، كما يمثل قوامها الوظيفي في المتوسط 70٪ من إجمالي العمالة، و50٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وبهذا يمكن القول بأن لها اليد الطولي في تخفيف حدة الفقر ودعم التنمية المستدامة والحفاظ على بيضة الطبقة المتوسطة التي تم سحقها بفعل العديد من الأسباب وفي مقدمتها تدني الدخل وعدم موازاته للارتفاع الخانق في الأسعار.
تتمتع المشروعات الصغيرة والمتوسطة بمرونة فائقة، إذ تميل في الغالب إلى توظيف الفئات الضعيفة من القوى العاملة، مثل النساء والشباب وأبناء الأسر الفقيرة، بل إنها تعد في بعض الأحيان المصدر الوحيد لدخل العمالة الفقيرة في المناطق الريفية، وعلى هذا النحو، فإنه يمكن اعتبارها المصدر الرئيسي المسؤول عن توزيع الثروات في قاعدة الهرم الاقتصادي في أي كل المجتمعات.
خلال موجة انتشار الوباء، اختبرنا مرونة الشركات الصغيرة في الاستجابة للتداعيات والتغيرات، وتأكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن حجمها الصغير في الاقتصاد يجعلها دوماً عرضة لخطر الزوال، إذ يظل اقتناص التمويل من فم الأسد "البنوك" عقبة رئيسية أمامها، فيما تتراجع أمامها فرص اقتحام السوق الدولية ونقل منتجاتها وتسويقها بالخارج مقارنة بالحيتان الكبار أو الهوامير، مما يستلزم الاستمرار في تقديم الحوافز الحكومية ومد آجال سداد القروض.
في العالم العربي، تقدر مساهمة المشروعات الصغيرة والمتوسطة بنحو 33 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و50 في المائة من التشغيل بالقطاع الرسمي، ويعليها يقع عبء كبير في تخفيف حدة البطالة خلال السنوات المقبلة بفعل قدرتها العالية على خلق فرص عمل باستمرار، حيث تساهم في استحداث 4 من بين كل 5 فرص عمل جديدة في القطاع الرسمي، ومع ذلك، تعاني هذه الشركات من أكبر فجوة للشمول المالي في العالم، ففي مصر على سبيل المثال، وبالرغم من العقبات الكلاسيكية للتمويل، إلا أنه توجد فرص قوية وكبيرة للتقدم في دعم هذه النوعية من المشروعات "الشعبوية" بفضل القطاع المصرفي المتكامل، ورأس المال البشري المتمثل في النسبة العالية من الشباب.
على أنه يمكن للدول العربية الاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة في التكنولوجيا المالية الصاعدة بسرعة الصاروخ، حيث تتمتع المنطقة بوفرة في الشباب والمهاجرين، وانتعاش ملحوظ في التجارة الإلكترونية، خاصة بعد اندلاع الجائحة وحجر الملايين في منازلهم، بالإضافة إلى انتشار ثقافة الاقتصاد غير الرسمي بغزارة في معظم الدول العربية، ويمكن هنا أن نضرب مثالاً بأربعة دول عربية تراهن على قدرة المشروعات الصغيرة والمتوسطة في دعم النمو الاقتصادي، وهي مصر ولبنان والأردن والإمارات والذين يستحوذون على ثلاثة أرباع الشركات الناشئة في المنطقة ككل، ولهذا أنشأت هذه الدول عدة مسرعات أعمال في مجال التكنولوجيا المالية، حيث يتركز نشاطها بشكل أساسي على حلول الدفع الإلكتروني وتمويلات السوق، والتمويل الجماعي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
تعد عقبة التمويل لهذه المشروعات الأكثر شيوعا والأشد تعقيدا، ففي مصر، التي تعد أكبر دولة عربية من جهة السكان، وبالرغم من أن هذه المشروعات الصغيرة تستوعب 75 في المائة من القوى العاملة، إلا أن 50 في المائة منها فقط تتعامل مع البنوك، مما يؤشر على أزمة ثقة متبادلة بين طرفي المعادلة، إذ لا تزيد القروض المقدمة لها على 7 في المائة من الإقراض المصرفي في منطقة الشرق الأوسط، علماً بأن تمكين هذه المشروعات ضروري في أي جدول أعمال حكومي يستهدف "النمو الاحتوائي"، وحسناً فعلت السعودية، أكبر اقتصاد عربي، حينما قررت قبل أيام إطلاق بنك متخصص لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولعله يكون مثالاً يحتذى به في هذا الاتجاه، وجسرا لإتاحة الفرصة بشكل أكبر لتمويل من ترفض البنوك تمويلهم.
بعيداً عن إغراءات المشروعات الضخمة التي تحظى بنصيب الأسد في تمويل البنوك المحلية، وإهمال الاستثمار في المشروعات الدنيا المتحمسة للإنتاج والنمو وتحقيق قيمة مضافة لكافة الأطراف، فإن سد ثغرة الشمول المالي للمشروعات الصغيرة من شأنه تحقيق منافع اقتصادية متعددة، فمن الممكن أن يرفع النمو السنوي بنحو 1 في المائة، وربما يقود إلى خلق نحو 15 مليون وظيفة جديدة في العالم العربي بحلول عام 2025، فضلا عن زيادة فعالية السياسات المالية والنقدية، بما يحسن الإيرادات العامة للدول العربية.
خاص_الفابيتا