وصايا وقصائد الغروب أقوى تأثيراً وأصدق قيلاً

19/02/2021 1
عبدالله الجعيثن

مشاعرنا الإنسانية تفوق قدرتنا كثيراً، ولأجلها نحتاج ضعف العمر، وتتركز المشاعر ويتجلى الصدق بأسمى معانيه في لحظات وأوقات الغروب .. حين تصبح شمس الإنسان على أطراف العسبان.. ويحس أنه ملاقٍ ربه عز وجل، عمّا قريب، فتفيض نفس الشاعر بخلاصة الصدق، وعصارة العمر، لا نقول كأنها مشاعر مودّع، بل هي كذلك فعلاً، وصيِّة مودع، ومشاعره.. أمام الموت يتساوى الجميع..

ومن القصائد الرائعة التي قيلت في آخر الدنيا وأول الآخرة:

يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِيَ كَـثْرَةً

فَلَقَدْ عَلِــمْتُ بِأَنَّ عَفْـوَكَ أَعْـــظَمُ

أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعاً

فَإِذَا رَدَدْتَ يَدَيْ فَـــمَنْ ذَا يَرْحَــمُ

إنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إلاَّ مُحْـــسِنٌ

فَمَنِ الذِي يَرْجُو المُسِيءُ المُجْرِمُ ؟

مَا لِي إِلَــيْكَ وَسِيــــلَةٌ إلاَّ الرَّجَا

وَجَمِــــيلُ ظَنِّيَ ثُــمَّ أَنِّيَ مُسْـــلِـمُ

(أبو نواس)

خـمسٌ وسـتُونَ.. في أجفان إعصارِ

أمـا سـئمتَ ارتـحالاً أيّها الساري؟

أمـا مـللتَ مـن الأسفارِ.. ما هدأت

إلا وألـقـتك فـي وعـثاءِ أسـفار؟

أمـا تَـعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا

يـحـاورونكَ بـالـكبريتِ والـنارِ

والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بقِيَتْ

ســوى ثُـمـالةِ أيـامٍ.. وتـذكارِ

بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا قـلبي

الـعناءَ!... ولكن تلك أقداري

أيـا رفـيقةَ دربـي!.. لو لديّ سوى عـمري

لقلتُ: فِدى عينيكِ أعماري

أحـبـبتني.. وشـبابي فـي فـتوّتهِ

ومـا تـغيّرتِ والأوجـاعُ سُمّاري

مـنحتني مـن كـنوز الحُبّ. أَنْفَسها

وكـنتُ لـولا نـداكِ الجائعَ العاري

حتى قال:

وأنـتِ!.. يـا بـنت فـجرٍ في تنفّسه

مـا فـي الأنوثة.. من سحرٍ وأسرارِ

مـاذا تـريدين مـني؟! إنَّـني شَبَحٌ

يـهيمُ مـا بـين أغـلالٍ. وأسـوارِ

هذي حديقة عمري في الغروب..

كما رأيـتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ

الـطيرُ هَـاجَرَ.. والأغـصانُ شاحبةٌ

والـوردُ أطـرقَ يـبكي عـهد آذارِ

لا تـتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي

فـبـين أوراقِـهـا تـلقاكِ أخـباري

وإنْ مـضيتُ.. فـقولي: لم يكن بطلاً

وكــان يـمزجُ أطـواراً بـأطوارِ

هذي حديقة عمري في الغروب.. كما رأيـتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ

ويـا بـلاداً نـذرت العمر.. زَهرتَه لعزّها!

... دُمتِ!... إني حان إبحاري

تـركتُ بـين رمـال الـبيد أغنيتي

وعـند شـاطئكِ المسحورِ. أسماري

إن سألوكِ فـقولي: لـم أبِعْ قلمي

ولـم أُدنّـس بـسوق الزيف أفكاري

وإن مـضيتُ.. فـقولي: لم يكن بَطَلاً

وكـان طـفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري

يـا عـالم الـغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه

وأنـت تـعلمُ إعـلاني.. وإسـراري

وأنــتَ أدرى بـإيمانٍ مـننتَ بـه ِ

عـليّ.. مـا خـدشته كـل أوزاري

أحـببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي

أيـرتُـجَى الـعفو إلاّ عـند غـفَّارِ؟)

غازي القصيبي -رحمه الله-

أشوف ديّاني وقـّف لـي علـى البـاب

يبـي الـوفـا مـنـيّ ويطـلـب حسـابـه

مـايـنّـسـي ديــــنٍ تـقـفّــاه طـــــلاب

الــديــن مـايـوفـيـه كــثــر الـطــلابــه

يافيـصـل أودعّـــك تـوديــع الاحـبــاب

لاتحتـريـه انّـــه يـجــي مـــن غـيـابـه

غيبة دهر ماهي شهر عـدّ وحسـاب

فــي مظـلـمٍ يـنـهـال فـوقــي تـرابــه

ابــيــك مـاتـجــزع وتــفــزع وتــرتـــاب

انّ جـاك مــن ينـعـي ويشـلـع ثيـابـه

عـمــر الـبـكـا مـافــاد حـــيٍ ولاثـــاب

لــوّ ســرّ غـيـرك كــان ســرّ الـنـدابـه

اعزم وشم وأصعد من المجد مرقـاب

واطـلـب لـبـوك انّــه يـخـفّـف عـذابــه

وعلـيـك بخـوانـك وربـعـك والاقـــراب

حـقــيّ عـلـيـك مـواصـلـك لـلـقـرابـه

يافيـصـل أودعّـــك تـوديــع الاحـبــاب لاتحتـريـه انّـــه يـجــي مـــن غـيـابـه

حتى قال:

بلغـتـك الاعــلام مـــن غـيــر نـجّــاب

والـحـريـعـرف مــن خـطـاه وصـوابــه

سليمان التركي السديري

من مرضي من السرير الأبيض

مِن جاري إنهارَ على فراشه وحشرجا

يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة

من حلمي الذي يمدّ لي طريقه للمقبرة

أكتبها وصيّةً لزوجتي المنتظرة

و طفلي الصارخ في رقاده: أبي أبي

تلم في حروفها من عمري المعذّب

إقبال يا زوجتي الحبيبة

لا تعذليني ما المنايا بيدي

ولست لو نجوت بالمخلّد

كوني لغيلان رضى وطيبه

كوني له أبا و أما و ارحمي نحيبه

وعلميه أن يذيل القلب لليتيم و الفقير

بدر شاكر السياب

 

نقلا عن الرياض