أظهرت مؤشرات أداء الميزانية العامة للدولة خلال الربع الثالث من العام المالي الجاري، تحسنا ملموسا مقارنة بمؤشرات أداء الربع الثاني الماضي من العام نفسه، مسجلة في جانب إجمالي الإيرادات نموا ربعيا وصل إلى 60.9 في المائة، ووصل الإجمالي إلى 215.6 مليار ريال، وتمكنت أيضا من تحقيق نمو سنوي في متحصلاتها حتى مقارنة بمستواها خلال الربع نفسه من العام الماضي، مسجلة نموا سنويا بلغ 4.0 في المائة، مدفوعة في تحقيق تلك النتائج الإيجابية بالنمو القياسي المتحقق في جانب الإيرادات غير النفطية، التي سجلت نموا سنويا قياسيا وصلت نسبته إلى 63.2 في المائة مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي، ونموا ربعيا تجاوزت نسبته 221.8 في المائة مقارنة بالربع الثاني الماضي من العام نفسه، لتستقر بنهاية الربع الثالث عند مستوى ناهز 123.0 مليار ريال، وذلك رغم الأوضاع الاقتصادية غير المواتية التي شهدها جميع الاقتصادات حول العالم، نتيجة تداعيات انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19 التي انعكست آثارها بصورة ملموسة على متحصلات الإيرادات النفطية، التي سجلت انخفاضا سنويا بلغت نسبته 29.8 في المائة مقارنة بالربع الثالث من العام الماضي، ووصلت متحصلاتها إلى 92.6 مليار ريال، وكان للارتفاع القياسي في جانب الإيرادات غير النفطية الدور الكبير في امتصاص آثار ذلك الانخفاض بالإيرادات النفطية، كما أدى ارتفاعها بذلك المستوى إلى ارتفاع نسبة الإيرادات غير النفطية إلى إجمالي المصروفات الحكومية إلى أعلى نسبة لها غير مسبوقة، ووصلت إلى نحو 48.0 في المائة من إجمال المصروفات، وإلى نحو 54.9 في المائة من المصروفات الحكومية الجارية.
في المقابل سجل إجمالي المصروفات الحكومية خلال الربع الثالث من العام الجاري ارتفاعا سنويا بنسبة 7.1 في المائة، ليستقر بنهاية الربع عند أعلى من مستوى 256.3 مليار ريال "35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر للربع الثالث"، كما سجل نموا ربعيا بنسبة 5.4 في المائة مقارنة بالربع الثاني من العام نفسه، وحافظت السياسة المالية وفق تلك التطورات على دورها الرئيس في دعم الاقتصاد الوطني، لما يمثله الإنفاق الحكومي حتى الفترة المعاصرة من أهمية عالية لدعم النشاطات المختلفة للاقتصاد وتحفيزه بصورة عامة، وللقطاع الخاص خصوصا، وهو المسار الذي يخضع لكثير من الإصلاحات والتطوير وفقا للبرامج التنفيذية لرؤية المملكة 2030، وصولا إلى أهدافه النهائية بحلول ذلك العام، ليحتل القطاع الخاص مكانته المستهدفة، وليسهم بما لا يقل عن 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهو الأمر المحوري الذي تم تأكيده في توجهات السياسة المالية لميزانية العام المقبل، وتم تحديد مسار العمل عليه عبر عديد من المحاور، كان أهمها: مواجهة التحديات المالية والاقتصادية الراهنة والمتوقعة بهدف المحافظة على المركز المالي للدولة، والمحافظة على مكتسبات النمو الاقتصادي التي تحققت في الفترة ما قبل أزمة جائحة كورونا، وتمكين الجهود الحكومية للعودة إلى مسار النمو والتعافي من الأزمة، إضافة إلى توجيه الإنفاق الحكومي وتركيزه على القطاعات ذات الأولوية والعائد الاقتصادي الأعلى، والعمل وفق منظومة متكاملة على استراتيجيات متعددة، تستهدف تعزيز استقرار الإنفاق الحكومي، مع مواصلة الصرف على برامج تحقيق الرؤية والمشاريع التنموية الكبرى، واستمرار الصرف أيضا على برامج منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية.
أفضت تلك التطورات المالية في جانبي الإيرادات والمصروفات الحكومية رغم استمرار آثار انتشار الجائحة العالمية محليا وعالميا، إلى انخفاض عجز الميزانية مقارنة بالربع الثاني من العام نفسه بنسبة 62.7 في المائة، ليستقر عند 40.8 مليار ريال، مقارنة بعجز مالي وصل إلى أعلى من 109.2 مليار ريال خلال الربع الثاني الماضي، تم تمويله بالكامل من الاعتماد على السوق المحلية للدين، إضافة إلى تمويله بجزء محدود جدا من الاحتياطيات الحكومية، وليرتفع الدين العام إلى نحو 847.8 مليار ريال بنهاية الربع الثالث من العام الجاري. وفي هذا الصدد فقد سعت السياسة المالية خلال الفترة إلى تحقيق التوازن المنشود بين عديد من الأهداف المتعارضة - المحافظة على نمو واستقرار الاقتصاد من جانب، ومن جانب آخر إحكام السيطرة على العجز المالي والدين العام -، وهو الأمر الأكثر صعوبة في ظل مثل الأوضاع الاقتصادية غير المواتية الراهنة التي يشهدها كل الاقتصادات والحكومات حول العالم، ترتب عليه ارتفاع مديونيات كثير من الحكومات في إطار مواجهتها بالغة التعقيد لآثار الجائحة العالمية لانتشار فيروس كورونا كوفيد - 19 إلى مستويات عالية جدا لم يسبق لها مثيل، وهو الأمر الذي استهدفت السياسة المالية لدينا النأي عنه تماما، وعدم الوقوع في مخاطره طويلة الأجل، والعمل وفق برامج صارمة تتحكم بمستويات العجز المالي والدين العام وألا يخرج عن السيطرة، ودون التأخر في الوقت ذاته عن تلبية احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع.
وهو ما وفر للمملكة بحمد الله أن تواجه تداعيات هذه الجائحة من منطلق قوة لا ضعف، مستفيدة بدرجة كبيرة من ثمار الإصلاحات الهيكلية التي نفذتها خلال الأعوام القليلة الماضية، المتمثلة في تنفيذ برامج ومبادرات رؤية المملكة 2030 وفق خطة واضحة الملامح تستهدف تنويع الاقتصاد الوطني، وضمان عدم تأثر الخطط التنموية بتقلبات أسواق النفط، وتعزيز دور القطاع الخاص في المنظومة الاقتصادية الهادفة إلى تنويع الاقتصاد، وإتاحة مزيد من الفرص الاستثمارية أمامه، ومشاركته في مشاريع البنية التحتية بما في ذلك الاستثمار في التقنية، ليكون المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي، وهو ما كان له الأثر الإيجابي إبان تفشي الجائحة العالمية، وأسهم بدوره في الاستجابة السريعة نتيجة لتلك الإصلاحات طوال الأعوام الماضية. ومع بداية الجائحة كان هدف حكومة المملكة محددا في المحافظة على صحة الإنسان كأكبر وأهم الأولويات، وتم العمل بناء عليه بإعادة توجيه الموارد اللازمة لمنظومة الرعاية الصحية، ومضاعفة عدد الأسرة للرعاية المركزة، وتوفير الأجهزة الطبية المطلوبة للتعامل معها، كما وجهت حكومة خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- بتقديم خدمات الرعاية الصحية للمصابين بفيروس كورونا المستجد مجانا للمواطنين ولجميع المقيمين حتى لمخالفي الإقامة منهم.
نقلا عن الاقتصادية