الأولوية القصوى لحلول التوطين

09/09/2020 2
عبد الحميد العمري

أثبتت التجارب طويلة الأمد وكثيرة العدد، طوال أكثر من 20 عاما مضت، أن ملف توطين الوظائف في القطاع الخاص بحال شخصت أسباب ومعوقات ضعف أو تأخر درجات تقدمه على نحو بعيد عن حقيقته الأساسية على أرض واقع القطاع، فليس مستغربا أن تأتي نتائج البرامج والسياسات المستنبطة منها أدنى من المأمول منها، وأدنى أيضا من الوفاء بمعالجة الجذور العميقة للبطالة، وهذا بالضبط ما وصلت إليه استراتيجية التوظيف السعودية، التي أكدت "أن النمو المطرد في أعداد القوى العاملة الوطنية، والتوسع في التدريب والتعليم، مع استمرار الاستقدام، أدت مجتمعة إلى تشوهات في سوق العمل يتمثل أخطرها في ظهور البطالة في أوساط العمالة الوطنية، ولم تكن السياسات والإجراءات المتخذة كافية لمعالجة هذه التشوهات من جذورها، وظهر واقع جديد يفرض أهمية إيجاد رؤية جديدة لحل قضايا السعودة والتوظيف والبطالة في المملكة"، "استراتيجية التوظيف السعودية (ص 17)".

ومن النتائج العكسية لما تقدم ذكره أعلاه وقوع مستهدفات التوطين في فخ ما يمكن القول عنه مجاملة شريحة واسعة من ملاك منشآت القطاع الخاص على حساب الهدف الرئيس لسياسات وبرامج التوطين، فلا عجب حينئذ أن جاءت نتائج التجارب السابقة طوال أكثر من عقدين من الزمن على عكس ما اشتهته سفن التوطين، ومعدل البطالة ظل يتصاعد لا يثنيه سقف معين، ووتيرة الاستقدام استمرت تسابق الرياح دافعة مراوح الحوالات المالية إلى الخارج إلى التسارع عاما بعد عام.

انظر سريعا إلى معدل البطالة الذي كان لا يتجاوز 8.1 في المائة نهاية عام 1999 وقد صعد إلى 11.8 في المائة مع نهاية الربع الأول من العام الجاري، وكان قد لامس 12.9 في المائة منتصف عام 2018. بينما صعد رقم التأشيرات سنويا من 516.8 ألف تأشيرة بنهاية عام 2000 إلى أن لامس سقف 2.1 مليون تأشيرة بنهاية عام 2019، وكان قد تجاوز 3.1 مليون تأشيرة بنهاية عام 2015، بينما ناهز حجمها 341.7 ألف تأشيرة خلال الربع الأول من العام الجاري فقط، ورافق ذلك صعود كبير في أعداد العمالة الوافدة، قفز من أدنى من 1.4 مليون عامل وافد مطلع عام 2000 إلى أن تجاوز بنهاية الربع الثاني من العام الجاري سقف 6.6 مليون عامل، وكان قد قفز إلى نحو 8.6 مليون عامل وافد بنهاية الربع الثالث عام 2016، وارتفع حجم الحوالات إلى الخارج من أدنى من 36 مليار ريال سنويا مطلع عام 2000 إلى أن تجاوز 125.5 مليار ريال بنهاية العام الماضي، وكان قد تجاوز 156.8 مليار ريال خلال 2015.

لقد تحول الاعتماد المؤقت على العمالة الوافدة الذي تم اللجوء إليه مرحليا لأسباب لم يعد لها منذ أكثر من عقدين زمنيين أي وجود في نهاية السبعينيات الميلادية إلى ما يشبه الإدمان المفرط، وتحول ما كان حلا مؤقتا له مبرراته خلال الطفرة الأولى للنفط قبل أكثر من أربعة عقود، إلى أحد أكبر التحديات التنموية التي واجهها الاقتصاد الوطني منذ أكثر من عقدين من الزمن، وما زالت وتيرته تتصاعد عاما بعد عام، في الوقت ذاته الذي لم تدخر الدولة - أيدها الله - في سبيل تجاوز تلك التحديات الجسيمة أي جهود أو موارد مالية مهما كلفت، إلا واتخذتها في سبيل أن تحصل الموارد البشرية المواطنة على فرصها المشروعة من وظائف القطاع الخاص، ورغم ذلك لم يبادر أغلب ملاك القطاع الخاص بالاستجابة الكافية أمام تلك الجهود، وبما يرقى إلى مستوى تطلعات الباحثين والباحثات عن عمل من المواطنين، ولا تزال المحاولات والمبادرات تتوالى بعضها خلف بعض، إلى أن وصلنا جميعا إلى المرحلة الراهنة التي أصبحت تتطلب حلولا أقوى بكثير من جميع ما سبق بذله وإقراره من برامج وسياسات وإجراءات وتدابير.

تم طرح عديد من المبادرات عبر مختلف منصات الإعلام والتواصل المعاصرة، ومن خلال ورش العمل والمنتديات الأكاديمية والمهنية، جزء منها مضى في طريق التنفيذ، والجزء الأقوى فعالية ما زال يراوح حول طاولة النقاش والبحث والأخذ والرد، ويؤمل أن يجد طريقه في أقرب وقت إلى واقع التنفيذ، وتتبناه وزارة الموارد البشرية وتترجمه فعليا، وهي المبادرات والمقترحات التي تستهدف الدخول في صلب الأسباب التي وقفت خلف بطء التوطين وتأخره عن المأمول والواجب حدوثه، ووقفت أيضا خلف استدامة حالة الإدمان المستعصية لمنشآت القطاع الخاص على خدمات العمالة الوافدة، ودون التفات إلى ما يتوافر لدى الموارد البشرية المواطنة من قدرات وتأهيلين علمي وعملي على حد سواء، ودون الاهتمام الكافي بالدور الواجب الوفاء به من لدن تلك المنشآت تجاه مقدرات بلادنا واقتصادنا ومجتمعنا.

من أهم تلك المبادرات التي تم طرحها، ووصلت أخيرا - بحمد الله - إلى مجلس الشورى، تمهيدا لتتحول إلى حقيقة على أرض الواقع، تلك التي تتعلق برفع معدل توطين الوظائف القيادية والتنفيذية في منشآت القطاع الخاص، بما لا يقل عن نسبة 75 في المائة، وهي المبادرة التي ستواجه بكل تأكيد بمقاومة شديدة جدا من لدن القطاع الخاص، ممثلا في غرفه التجارية وصولا إلى منشآت القطاع نفسه، وسنرى صفحات طويلة جدا تتضمن عشرات أو مئات المبررات الممانعة، شأنها في ذلك شأن تجارب سابقة عديدة، إلا أن المحك الرئيس هنا، والاعتبار الذي سيسقط عند أسواره أي مبررات مهما كانت، وهو الاعتبار الذي يثقل ميزان الأهمية القصوى لتلك المبادرة، ممثل في القوى العاملة الوطنية، تحديدا الفئات الشابة من مجتمعنا ذات التأهيل العلمي والتدريبي المكلف، وهو ذو الوزن الأكبر وما لا يسبقه كأولوية وطنية لا يضاهيها أي اعتبار آخر، وهو بالضرورة ما يجب أن تتم ترجمته إلى واقع لا مناص منه أمام منشآت القطاع الخاص، شأنه شأن عديد من القرارات والإجراءات التي اتخذتها الدولة - أيدها الله.

 

نقلا عن الاقتصادية