تخليص الاقتصاد من أثقال الأراضي

31/08/2020 1
عبد الحميد العمري

ليتضح المعنى الدقيق من عنوان المقال تخيل - وهو أمر مستبعد حدوثه تماما - أن كل ثروات الأفراد تركزت في الأراضي فقط، وعوائد ذلك التركز العالي جدا على استثمارات الأفراد، تتنامى بصورة مطردة فترة بعد فترة ودون أي تكلفة. في المقابل، كيف لبقية الأنشطة الأخرى للاقتصاد المنتجة أن تتحرك خطوة إلى الأمام، وقد أحجمت الأموال والثروات عن الاستثمار فيها، وكيف سيكون شكل هذا الاقتصاد؟

طبعا هذا تصور خيالي تماما، ولا يمكن أن تراه على أرض الواقع في أي اقتصاد حول العالم، إنما بدأت به ليتبلور لدى القارئ الكريم ما سيأتي من حديث مقبل ينطلق من الأهمية القصوى لاتجاه الأموال المدخرة والثروات العائدة للأفراد والشركات نحو توظيفها في أنشطة الاقتصاد المتنوعة، التي سينتج عنها اقتصاد ذو قاعدة إنتاجية متنوعة، تسهم مكوناته المنتجة في تعزيز النمو الاقتصادي واستدامته، وفي توفير فرص العمل الكريمة والمجدية لموارده البشرية، ومساهمة ذلك في تحسين مستوى الدخل بالنسبة إليهم، وسيعود بإنفاقهم مرة أخرى على الاقتصاد، وتحسين قدرة الادخار ومن ثم الاستثمار في الاقتصاد الوطني عبر قنواته وفي فرصه الاستثمارية المتنامية، في مقدمتها السوق المالية المحلية بكل ما تزخر به من أدوات استثمارية متنوعة وكثيرة، فتصبح أمام اقتصاد تتدفق في شرايينه الأموال والثروات، عدا ما سينجح فيه على طريق زيادة اجتذاب مزيد من الاستثمارات الخارجية، التي تبحث - كعادتها - عن الاستثمار في الفرص المجدية، المتركزة في الاقتصادات ذات الاستقرار والبيئة المحفزة في كل أنحاء العالم.

إن اقتصادا على هذه الهيكلة من النمو المستدام والمتحفز هو الأجدر والأقوى بالصمود في وجه كثير من التحديات المعاكسة المحتملة، والأجدر قبل كل ذلك على تجاوزها، وتحويلها إلى مصادر جديدة لقوته وصلابته في الأجل الطويل.

بناء عليه، سيكون أقرب إلى اتفاق الأغلبية على أن كل تسرب للأموال والثروات نحو تخزينها فقط في عنصر الأرض، وانتظار ارتفاع أسعارها لجني العوائد والمكاسب، يعني في المقابل حرمان الاقتصاد من الاستفادة من تلك الأموال والثروات. ولا تقف الآثار السلبية لتلك الصورة الآنفة عند هذا الحد، التي سيعني زيادته واتساع دائرتها مجرد حرمان الاقتصاد من الثروات اللازمة لتشغيله وإنتاجه، وتهيئته لتعزيز الاستقرار الاقتصادي للبلاد، ولتوفير الملايين من فرص العمل اللازمة لقوة عمله البشرية، بل إنها تتجاوز هذه الآثار السلبية بمسافات أبعد وأشد وعورة، إذ سيؤدي ارتفاع تركز الأموال والثروات في عنصر الأرض، إلى حدوث ارتفاع مطرد في أسعارها السوقية، الذي سينتقل بدوره إلى ارتفاع أسعار وأثمان العقارات على اختلاف أنواعها، وارتفاع إيجاراتها بكل أنواعها السكني والتجاري والصناعي، ما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج والتشغيل على منشآت القطاع الخاص، ويقلص من حظوظه كثيرا في النمو والتوسع والقدرة على التوظيف، كما سيؤدي أيضا إلى ارتفاع تكلفة المعيشة على الأفراد العاملين في مختلف القطاعات الاقتصادية بما فيها القطاع الحكومي، وهذا بدوره سيؤدي إلى اضطرار القطاعين الحكومي والخاص إلى رفع مستويات الأجور المدفوعة للعمالة لديهما لمواجهة تلك التحديات، الذي سيؤدي بدوره إلى مزيد من ارتفاع الأسعار السوقية للأراضي والعقارات والإيجارات، والدخول في حلقة مفرغة من التضخم الذي قد لا يبدو له سقف منظور.

وقد تزداد الأمور صعوبة في حال دخل على الطريق متغير آخر، المتمثل في زيادة ضخ القروض العقارية في يد الأفراد لأجل تجاوز غلاء أسعار الأراضي والعقارات، وسيتأكد الأثر العكسي لتلك القروض بصورة أصعب بحال استمرار تدفق الأموال والثروات على الأراضي دون قيد أو شرط، ودون وجود أي تكاليف ملموسة على كاهل ملاك الأراضي، الذي سيعني في مجمله مزيدا من تسارع وتيرة التضخم، وتطلب ذلك بالضرورة مزيدا من ارتفاع الأجور والقروض اللازمة على حد سواء.

هنا يأتي طرح عديد من الأسئلة: (1) كم من المنشآت الواقعة في الجانب المنتج من الاقتصاد ستكون لديها القدرة على التكيف والبقاء مع ما تقدم ذكره أعلاه؟ (2) ماذا يعني تساقط أعداد منها لم تستطع التكيف والصمود؟ (3) أين ستتجه الأموال والثروات سواء التي تخارج أصحابها من المنطقة المنتجة اقتصاديا أو تلك التي تبحث عن فرص استثمارية مجدية؟

المؤكد أن إجابة السؤال الأول تشير إلى أعداد المنشآت القادرة على التكيف والبقاء، ستتناقص تدريجيا مع استمرار أمد حياة تلك الحلقة المفرغة من التضخم، وأن إجابة السؤال الثاني تعني في الوقت ذاته تزايدا مطردا في أعدادها، وزيادة في أعداد من سيفقدون وظائفهم، عدا ما سيواجه الباحثين الجدد عن عمل من صعوبة أكبر في الحصول على فرص عمل، وكل هذا يعني ارتفاع معدل البطالة. وبالنسبة لإجابة السؤال الثالث، فلا شك أن الأغلبية ستتفق على توجه الأموال والثروات نحو الحقل المربح في ظل ما تقدم ممثلا في عنصر الأراضي، الذي أصبح في حكم المضمون وفقا لهذه الصورة تحقيقها لأرباح وعوائد طائلة، لا مجال لأي فرصة استثمارية أخرى بمنافستها.

لهذا تأتي الأهمية القصوى لانتهاج سياسات اقتصادية فاعلة، تستهدف تعزيز جاذبية الاستثمار في الجزء المنتج من الاقتصاد الوطني، وفي الوقت ذاته سد الطرق إلى أبعد حدود ممكنة أمام توجه الثروات نحو مجرد تخزينها في الجزء غير المنتج من الاقتصاد، وتأسيس منظومة فاعلة للعمل بمزيج من السياسات الديناميكية، التي تحمي الاقتصاد والمجتمع من تشكل أي مخاطر قد يترتب عليها إضعاف أو إنهاك الجزء المنتج من الاقتصاد، وفي الوقت ذاته قد تغذي التشوهات الهيكلية وتعزز قوة الجزء غير المنتج، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد معنى عنوان المقال، وكيف أن توجه أغلب الأموال والثروات نحو تكديسها وتدويرها لأعوام طويلة في عنصر الأراضي، سيحولها إلى أثقال على كاهل الاقتصاد الوطني وأفراد المجتمع، ما يستوجب اتخاذ السياسات والتدابير اللازمة والكافية لمنع وإيقاف هذه الحالة المرضية، والعمل بكفاءة على تخليص الاقتصاد الوطني من أعباء هذه الأثقال، ووضع المتغيرات في نصابها الحقيقي، الذي يكفل التوازن والاستقرار والنماء والازدهار لجميع أنشطة الاقتصاد، ودون أن يطغى حقل على آخر. وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى.

 

نقلا عن الاقتصادية