الأيام الأخيرة للطبقة المتوسطة

23/08/2020 1
د. خالد رمضان عبد اللطيف

ما زالت الطبقة المتوسطة، العمود الفقري في كل المجتمعات الإنسانية، تعاني الأمرين في ظل استمرار التداعيات الكارثية لفيروس كورونا، حيث يتعين على أبناء تلك الطبقة المهمة إجراء المزيد من المراجعات الاقتصادية بشأن تقليص الإنفاق، وترشيد الاستهلاك، ومواجهة أوجاع التقشف، والتغلب على الأزمات المالية الصاعقة، ولهذا فإن السؤال المنطقي هنا يدور حول مدى قدرة هذه الطبقة التي تآكلت مدخراتها خلال السنوات الماضية، على التكيف مع الأوضاع الجديدة، حتى لا تضطر إجبارياً، ودون سابق إنذار، للوقوع في براثن الفقر.

خياران لا ثالث لهما، وضعتهما الأزمة الراهنة أمام طبقة تشكل أكثر من نصف سكان العالم، فإما أن تنزلق إلى الطبقة الأدنى، وهو أمر من الصعب عليها القيام به، وإما أن تأخذ بزمام المبادرة وتقر بالأمر الواقع، لأن الحفاظ على نمط حياة الطبقة الوسطى يعني تضاؤل المدخرات والتخلي عن ارتياد المطاعم، وطلب المساعدات المالية من الأقارب للسفر وقضاء العطلات العائلية، والاستمرار في إرسال أطفالها إلى مدارس

لائقة، ومن المناسب أن تدرك تلك الطبقة أن الدخل المالي قد تراجع لدى جميع الطبقات، ولهذا فإنه من المرجح الآن أن يبقى الأغنياء أغنياء حتى مع تراجع ثرواتهم، وأن يزداد الفقراء فقراً، أما الطبقة المتوسطة، فتواجه خطر الانقراض والانزلاق نحو الفقر.

لم تكن السنوات الأخيرة عصراً زاهياً للطبقات المتوسطة، فقد أرهقتها السياسات التقشفية في كثير من الدول، والارتفاعات الفلكية في أسعار السلع والخدمات، وزيادة الضرائب، وتفشي البطالة، وتراجع الدخل، بالإضافة إلى الحروب التي اندلعت في بعض البلاد، والتي سحقت الطبقة المتوسطة تماماً وتركتها في العراء، ولهذا فإنه من الضروري الآن الحفاظ بصفة خاصة على تماسك أرباب الصناعات الصغيرة والمتوسطة، لأن خروجهم من السوق سيؤدي إلى انتقال الطبقة المتوسطة إلى حيز الفقر على المدى المتوسط.

رغم الإسهامات المهمة للطبقة المتوسطة في الإيرادات الضريبية التي تمول الإنفاق الحكومي، فإنها لا تلجأ عادةً إلى الخدمات الحكومية في مجالات نوعية كالصحة والتعليم، إذ تتحمل عبء الحصول عليها من القطاع الخاص مقابل تحصيل جودة أفضل في الخدمات، إلا أن الأوضاع الراهنة قد تضطرها بقوة إلى

خفض إنفاقها في ضوء تدهور الأجور، وارتفاع معدلات التضخم، مما سيلقي بآثار شديدة الخطورة على عملية التنمية المستدامة، وتراكم رأس المال، وسيضعف الإنتاجية ومعدلات النمو الاقتصادي.

خلال الأزمة الراهنة، عجزت الطبقات المتوسطة عن مواجهة التداعيات الرهيبة للجائحة، فانهارت بشكل دراماتيكي، ومع فقدان قوتها الشرائية انتقلت إلى الطرف الأضعف من الطيف، ولا شك أنه عندما تختفي الطبقة الوسطى، المحرك الاقتصادي في أي بلد، فإن الأمر يؤذن بخلل في التوازن الاقتصادي، واندلاع اضطرابات اجتماعية تقود إلى المجهول، إذ لا يقتصر دور الطبقة المتوسطة على تعزيز الطلب الاستهلاكي، بل يتخطى ذلك إلى الإصرار أيضاً على تحقيق جودة الإدارة والخدمات العامة، كالتعليم والصحة والبنية الأساسية، وقد تؤدي بها الأوضاع القاتمة إلى التخلي عن بعض معايير الجودة لضيق ذات اليد.

لكن، المعضلة الآن هي أن الفرص الاقتصادية للطبقة الوسطى تتقلص وتنحسر، وقد تعززت هذه المشكلة في زمن كورونا، ما يعني أننا بصدد "مذبحة" غير مسبوقة للطبقات الوسطى حول العالم، والتي يعد انهيارها انهياراً للمجتمع ذاته، وعلى ما يبدو، فإن قدّر الطبقة

الوسطى هو أن تكون دوماً مرنة وقادرة على التكيف مع تغير المعايير الاقتصادية في مجتمعات تغزوها العولمة، ولهذا فليس أمامها الآن سوى المقاومة من أجل الحفاظ على وجودها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وفي كل الأحوال، تبدو الحاجة الملحة إلى ضرورة الحوار المجتمعي، وعدالة توزيع الثروات، وشفافية القرارات الاقتصادية، بما يجعل المواطنين يشعرون بالثقة والتوحد مع باقي شركاء الوطن في مركب واحد، وإعطاؤهم جرعة أمل صادقة في إمكانية تحسن الأمور حتى لو اضطروا إلى تحمل بعض الصعوبات المعقولة. 

 

خاص_الفابيتا