كيف سيبدو العالم والاقتصاد بعد رحيل كورونا؟

30/04/2020 2
د. خالد رمضان عبد اللطيف

عندما ظهر وباء الطاعون قبل ٥٠٠ سنة تقريبا في أوروبا، فيما يسمى الطاعون الأسود وتسبب فى موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة العجوز، حدثت تغييرات كبيرة تلت الطاعون مثل: اختراع الأرصفة، والمجاري، وظهرت وظيفة عمال النظافة، ولاحقاً تم إلغاء البيوت الخشبية وتدشين مرحلة إعادة البناء الكبرى للبيوت السكنية، فما الذي يمكن أن يتمخض عنه وباء فيروس كورونا الحالي عندما ينقشع ظله من إعادة تشكيل الحياة البشرية بشكل عام؟ والقطاعات الاقتصادية بشكل خاص، خاصة وأنه من المتوقع أن يصبح التطعيم ضد الفيروس القاتل إجباري، بمعنى أنه لن يسمح بالعمل والتنقل  والسفر أو حضور الأنشطة إلا لمن حصل على التطعيم.

إذا كنت قد شاهدت  فيلم "عدوى" Contagion‏ وهو فيلم تشويقي أمريكي من إخراج ستيفن سودربرج تم إنتاجه عام 2011، ستكتشف سيناريو شديد الشبه بالوباء الحالي، لكن الملاحظة هنا، أن الأطباء  عندما توصلوا للقاح ضد الفيروس قاموا بعمل قرعة بتواريخ الميلاد من أجل بدء التطعيم، لأنه من المستحيل تطعيم مليارات البشر في فترة زمنية واحدة، لدرجة أن بنت بطل الفيلم ظلت محبوسة في الحظر 144 يوماً حتى يأتي دورها، والمؤكد هنا: أنه ليس معنى اكتشاف لقاح ضد الفيروس، أن جميع الناس سيتم تطعيمها، يقينا، فإن شعب الدولة التي اخترعت التطعيم ستكون لهم الأولوية، ثم يتم تطعيم الشعوب الحليفة، وربما يكون هناك إنتاج دوائي بتعاون عالمي واسع في عدة أماكن من العالم لتغطية جرعات تكفى مليارات البشر.

في عصر ما بعد كورونا، سيتغير شكل الحياة للأبد والأنشطة الإنسانية على اختلافها، فما كان مألوفاً حتى  مارس 2020 ربما لن نراه مرة أخرى، فقد يصبح من العادي ارتداء أقنعة الوجه الطبية، وتفادي المصافحة باليد، وربما يتم تطبيع المحافظة دائماً على مسافة المتر بيننا وبين الآخر، ومن الطبيعي أنه بعد انتهاء الحظر الحالي بسبب جائحة كورونا ستعود المدارس والجامعات والأنشطة الاقتصادية وحرية الحركة والسفر، لكن بدون أن تعود معها لذة الحياة الطبيعية التي تعودنا عليها طوال العمر، إذ سيظل التباعد الاجتماعي جاثماً على الصدور، وقد يزيد أو ينقص على حسب موجات الفيروس والانتهاء من تزويد كافة دول العالم بمصل التطعيم ضد كورونا حتى لا تتكرر الكارثة مرة أخرى.

يقيناً، لن يعود التكدس كما كان في الفصول المدرسية والجامعات والسينمات والطائرات والمواصلات العامة والاستادات الرياضية بأنواعها، وستكون هناك إشكالية كبيرة في الجانب التعليمي بفروعه المختلفة، وقد يساعد التعليم عبر الإنترنت واستمرار الدراسة إلى وقت متأخر من اليوم، حيث يتطلب الأمر حضور الطلاب في مواعيد مختلفة، وهذا معناه بالضرورة زيادة أعداد أعضاء هيئة التدريس وزيادة ميزانيات التعليم، كما أننا لن نجلس في المطاعم بنفس الترتيبات السابقة التي تعودنا عليها، وربما يتم إلغاء قوائم اختيار الطعام الورقية ، وسيتم تباعد بين الموائد، وهذا الأمر سيقلل بالطبع من إيرادات المطاعم، وقد يؤدي لغلاء الأسعار، كما سيزدهر التسوق عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونية، وربما يتطلب الأمر تدخلاً من منظمة التجارة العالمية لتنظيم أكثر صرامة بشأن التجارة الإلكترونية، وستلغى بعض الوظائف فيما ستظهر وظائف جديدة، وستجد الصحف الورقية المتعثرة الأمر مواتيا للتحول إلى مواقع إلكترونية.

في قطاع الطيران المكلوم بالأزمة، سيواجه المسافرون إجراءات نظافة إضافية، تتضمن تعقيم مقصورات الركاب بصورة مكثفة وشاملة، وسيصبح قياس درجة الحرارة والمطهرات والكمامات أمراً اعتيادياً، حتى التعامل مع حقائب السفر سيختلف، وسيتم توسيع المسافات بين المقاعد، وقد يتم منع الحجز على الكراسي المتجاورة لغير أفراد العائلة الواحدة، وقد تتم الإستعاضة عن وجبات الطائرة بوجبات جاهزة مغلفة.

بالنسبة للدول التي لم تلتزم بالحظر أو تلك التي طبقته بصفة شكلية، فلن يمر الأمر عالمياً مرور الكرام وستحاسب بشدة، إذ سينظر لها على أنها دول "مارقة صحياً"، وبالتالي سيتم خفض تصنيفاتها السياحية وسيضعف فيها الاستثمار الأجنبي، لأن المعيشة بها ستعتبر مخاطرة صحية، والتجارة معها مخاطرة، بل إن استقبال مواطنيها في الدول الأخرى سيعد مخاطرة كبيرة، أما كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، فستكون هناك إجراءات عزل كثيرة خاصة بهم، وسيظلوا ممنوعين من الكثير من الأنشطة العادية بعد رجوعها، وسيتم تطوير خدمات تقلل احتياجهم للنزول والإختلاط.

في الجانب الديني، سيتم تقليل التجمعات الدينية في الحج والعمرة وصلاة الجمعة وقداسات الكنائس، أبرز التغييرات ستنطلق من التعقيم والتباعد وعدم التلامس وتقليل الأعداد، وخيام وأماكن إقامة أوسع واشتراط أعداد أقل، وهذا بالطبع سيفرق في الأسعار، كما أن بناء دور العبادة سيزيد لاستيعاب الأعداد، وضمن الخيارات استخدام المساحات المفتوحة حولها، أو شراء الأبنية المجاورة لها.

على مستوى العلاقات الدولية، يمكن المراهنة على أن أي قطب كبير من أقطاب القوة الدولية الراهنة لن يخرج من الأزمة في موقع أفضل، سواء كدولة أو كنموذج، وعلى مستوى الأفراد والشعوب،  سيشكل الوباء نقطة انعطاف في تاريخ المراقبة الحكومية للمواطنين لتصبح مراقبة تحت الجلد،  ففي السابق كانت الأنظمة الشمولية خاصة، تريد أن تراقب المواطن حين ينقر بإصبعه  على رابط يحيلة إلى أحد المواقع المناوئة للتوجه الحكومي، أما الآن، فلا تريد الحكومة معرفة الرابط فحسب ، وإنما تريد أيضاً معرفة درجة حرارة الإصبع وضغط الدم تحت الجلد.

من المؤكد أن الأزمة الراهنة ستحدث تحولا طويل الأمد في الاقتصاد العالمي نتيجة استياء بعض الدول التي باغتها الوباء، ما سيعيد إلى الواجهة مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية وسيقود إلى التشكيك في عولمة شبكات التوريد ونظرية "الميزات النسبية" التي أثبت ديفيد ريكاردو عالم الاقتصاد البريطاني جدواها في المعاملات التجارية الدولية، وإذا كانت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 تسببت بانكفاء في ديناميكية تطوير سلاسل القيمة العالمية، فإن وطأة فيروس كورونا المستجد، ستكون أعمق وأكثر استدامة.

خاص_الفابيتا