عام أعلن بأحداثه وتطوراته، وزنه الثقيل جدا منذ يومه الأول، أحداث التفت عاصفتها التسونامي حول رقبة الأرض التفافا، كان جوهر تلك العاصفة انتشار فيروس كورونا المستجد "كوفيد - 19"، الذي وصل أعداد ضحاياه حتى تاريخ نشر هذا المقال إلى نحو ثلاثة ملايين مصاب، وتسبب في وفاة ما يقرب من 215 ألف ضحية، كما تسبب في أكبر إغلاق تاريخي لأنشطة الاقتصاد العالمي، لتصطدم الاقتصادات والأسواق بأعنف وأكبر موجة من الانهيارات السعرية والخسائر الرأسمالية منذ الكساد الكبير، وفقد عشرات الملايين من العمال وظائفهم ومصادر دخلهم، ما اضطر الحكومات إلى إقرار كثير من مبادرات الإنقاذ بتكاليف فاقت فواتيرها تريليونات الدولارات، ولا تزال وتيرة تلك المبادرات مستمرة بالتزامن مع استمرار اتساع مخاطر انتشار الفيروس، وفي ظل الغياب الكبير للوصول إلى لقاح جاد يؤذن بنهاية هذا الفيروس الخطير.
على الرغم من كثير من التوقعات التي تتنبأ بامتداد فترة مواجهة انتشار الفيروس حتى العام المقبل، ما يعني بدوره عدم اكتمال الصورة فيما يتعلق بالآثار والتداعيات التي سيخلفها انتشار هذا الفيروس على مختلف القطاعات والنشاطات حول العالم، إلا أن ما ثبت للجميع حتى تاريخه من سوء وقساوة تلك الآثار والتداعيات المريرة لانتشار الفيروس، سيكون كافيا جدا لأن يتحول العام الجاري بأكمله إلى نقطة زمنية فاصلة في التاريخ البشري الطويل، ويتم عنونته بعام الكورونا لتمييزه المستحق عما قبله، وعما سيأتي بعده من تطورات وتغييرات جذرية لم يسبق لها مثيل، شكل انتشار الفيروس وما تزامن معه من إجراءات وقرارات متسارعة في كل أنحاء العالم، نمطا نادرا من أنماط حياة البشرية المعاصرة الذي لم يبق له مثيل في التاريخ، وقد يكون من المبكر الحكم باكتمال أركان وأوصاف ذلك النمط الحياتي المعاصر للبشرية؛ في الوقت ذاته الذي لا يزال الفيروس آخذا في الانتشار، وفي غياب وجود أي لقاح مضاد له حتى تاريخه.
قبل أن يضاف هذا العام بأحماله المريرة إلى قائمة الأعوام المفصلية في تاريخ البشرية، كفترة الكساد الكبير أو الأزمة المالية العالمية، سيكون هذه العام مرجعية لتطورات 20 إلى 30 عاما مقبلا على أقل تقدير، هذا على افتراض أن فيروسه الفتاك ستنجلي مخاطره قبل نهايته أو قبل منتصف العام المقبل على أبعد تقدير، وفي حال تجاوز وجوده تلك الفترة المنظورة؛ سيكون لتداعياته وآثاره بكل تأكيد شؤون أخرى أوسع وأبعد من كل ما وضعته وتصورته السيناريوهات الراهنة.
يأتي الحديث هنا على مستوى المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، التي تتأثر الآن بدرجة شديدة جدا بتداعيات وتأثيرات انتشار الفيروس، وهي أيضا في صلب اهتمام السياسات الاقتصادية والمالية جميعها، التي اتخذت من قبل الحكومات جميعها حول العالم، وبالنظر إلى أبرز وأثقل محاور تلك المجالات "حماية القطاع الخاص من الإفلاس، والعمال من فقدانهم وظائفهم، والحد من انفجار معدلات البطالة، وحماية الأسواق المحلية من انقطاع الإمدادات والغذاء والدواء، والمصارف ومؤسسات التمويل من تعثرات المقترضين"، سيتأكد لدى الجميع أي نوع من التحديات الجسيمة التي يواجهها المجتمع الدولي بكل فئاته ودرجات تقدمه، وهي أيضا التحديات التي سيمتد الاهتمام بها حتى ما بعد انجلاء مخاطر انتشار الفيروس لأعوام عدة مقبلة.
ستشكل كل تلك التحديات الجسيمة عند حدودها التقليدية أعلاه، أحد أكبر التحديات على كاهل الحكومات والاقتصادات، وقد لا تقف عند تلك الحدود التقليدية، فقد تتجاوزها في عديد من المناطق حول العالم إلى ما هو أسوأ من تلك الاحتمالات، بنشوء حروب وصراعات عسكرية ضخمة بين عدد من الدول أو المناطق وفق عديد من تقديرات المراكز البحثية الاستراتيجية، ما يزيد بدوره من المخاطر والأعباء والتكاليف على كاهل الدول والمجتمعات خلال الفترات المستقبلية المقبلة، إلى الدرجة التي لا يمكن المقارنة خلالها بين أوضاع العالم مستقبلا حال نشبت بعض الحروب أم لم تنشأ.
إن ما أظهرته أول أربعة أشهر من العام الجاري حتى تاريخه، كاف جدا لأن يخلده ويرسخ أقدامه في التاريخ البشري المعاصر، ويحوله إلى عام مرجعي لما بعده من فترات زمنية مقبلة، وإن حدث وتضاعفت تطورات هذا العام وجاء بمزيد من المتغيرات والتداعيات، فلن يتجاوز كونه مزيدا من التأكيد على كونه عاما مفصليا في التاريخ المعاصر، والمجيء بمزيد من التأثيرات التي ستلقي بظلالها وآثارها العميقة على تصورات وتشكلات العالم فيما بعده من فترات زمنية مقبلة، تلك التصورات التي قد يكون من الاستحالة بمكان أن يتخيلها أحد من العالمين في الوقت الراهن، مهما بلغت قدراته وإمكاناته، فيما يكتفي كثير من المراقبين والمختصين في هذا الشأن، بالاتفاق الواسع على أن العالم بأكمله يتجه إلى صورة مغايرة تماما عما هو عليه قبل هذا العام ليس هذا فحسب، بل إن فترة ونهاية التغيير المرتقبة للعالم ستأخذ مسارات غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وفي نهاية الأمر ستتبين للجميع ممن سيعاصرون تلك الأعوام القليلة المقبلة الصورة كاملة، والمأمول حقا، أن تأتي كل تلك التغيرات المترقبة حاملة للخير والتقدم والسلام والاستقرار للعالم بأسره.
نقلا عن الاقتصادية