يعد فيروس كورونا القاتل أكبر تحد يواجه الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه في نوفمبر 1993، إذ تظهر الأزمة الراهنة بجلاء الانقسام الحاد داخل التكتل الأوروبي، حتى فقدت أغنى قارات العالم معاني التكامل والتضامن، ففشلت مراراً في الاتفاق على آلية مالية مشتركة لإنعاش الاقتصاد الأوروبي في مواجهة التداعيات الكارثية للوباء الذي فتك بآلاف الأوروبيين، وهو الأمر الذي أثار حفيظة دولاً مهمة كإيطاليا وإسبانيا فرنسا، لتضطر رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين في نهاية المطاف للاعتذار إلى إيطاليا تحديداً عن التلكؤ في الوقوف بجانبها في تلك الأزمة العميقة، وبصرف النظر عما حصل وسيحصل، فقد أسفرت تلك الصدمة الرهيبة عن تلطيخ صورة الوحدة الأوروبية، وسلبت التكتل هيبته على المسرح العالمي، وأظهرته بمظهر عجوز بلا أنياب.
يُصنّف الوباء الحالي على أنه أكبر أزمة صحية واقتصادية تواجه أوروبا منذ عام 1918، إذ أن اندلاع الفيروس الخبيث لم يفتك فقط بآلاف الأوروبيين، ويجمد قطاعات كبيرة وحيوية، مما يهدد بانكماش اقتصادي يقدر بنحو عشرة في المائة هذا العام، بل إنه أيضاً يهدد بتقويض هالة الكفاءة الخاصة بوحدة وتكامل وجاهزية القارة العجوز، باعتبارها ملاذ الطب الآمن وبلاد الرعاية الصحية المتكاملة، وبها تستوطن كبرى شركات الأدوية العالمية، وقد شاء القدر أن يدفع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، المصاب بفيروس كورونا المستجد، ضريبة التلكؤ البريطاني في إغلاق البلاد، واتباع توصيات العزل على غرار دول أوروبية مجاورة، حتى إنه استخف مطلع مارس بانتشار الفيروس قائلا إنه: "صافح الجميع وبينهم مرضى بكوفيد-19 "خلال زيارة إلى مستشفى في لندن.
خلال إدارته للأزمة، بدا الاتحاد الأوروبي، الذي افتقد التنسيق تماماً، فاشلاَ في سياساته الوقائية والصحية والاجتماعية، ومتعثرا في ردة فعله سواء فيما يتعلق بعدم التضامن الكافي خاصة مع إيطاليا أحد مؤسسيه، أو الإغلاق المتأخر للحدود، ولم يكن الفشل في إدارة الأزمة الحالية إلا انعكاساً للفشل السياسي والدبلوماسي السابق، والذي بلغت ذروته مع انفصال بريطانيا عن التكتل "بريكست"، بل إن البنك المركزي الأوروبي بدا في بداية تفجر الأزمة وكأنه غير معني بها، ومع مرور الأيام اتضح أن التقييم الوردي للاتحاد الأوروبي في بداية الجائحة يتناقض بشكل صارخ مع أزمات نقص الأقنعة والمعدات الطبية وأجهزة التنفس الاصطناعي التي تفجرت لاحقاً بعد بضعة أسابيع من تفشي الوباء، وأدت مبالغات حكومات الاتحاد الأوروبي وادعاء القدرة على احتواء كورونا، إلى تفاقم الأزمة وازديادها سوءاً.
مع هذا، ينبغي أن ندرك أن هناك سبعة عوامل رئيسية تضافرت لتجعل من الفيروس القاتل أزمة حقيقية في القارة الأوروبية، وهي: المفاجأة، ونقص المعلومات، وتصاعد الانتشار، وفقدان السيطرة، وتفشي حالة الذعر، وغياب الحل الجذري السريع، وضعف التنسيق بين دول التكتل العريق، ولو عقدنا مقارنة سريعة في سرعة الاستجابة والتعامل مع الجائحة، بين دول أوروبا ونظيرتها في شرق آسيا مثل الصين واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، فسنجد أن الدول الآسيوية كانت الأسرع في تنفيذ إجراءات احتواء انتشار الفيروس، عبر فرض حظر التجول على جميع مظاهر الحياة، فيما كان البطء السمة الغالبة على الدول الأوروبية، فقد احتاجت إيطاليا لأسابيع حتى تخبر العالم عن أولى الحالات المصابة، ومن ثم فرضت حظراً على مركز الوباء في شمال البلاد، وكذلك تلكأت إسبانيا وفرنسا وبريطانيا في اتخاذ الإجراءات الاحترازية، مما سمح بسرعة انتشار الفيروس، وهذا معناه أن الدول الآسيوية استثمرت أفضل وأسرع في الإمكانيات المتاحة سواء بالنسبة للكوادر الطبية أو المعدات الصحية أكثر من نظيرتها الأوروبية التي وصمت في الأخير بالموبوءة.
أدت الخلافات الأوروبية- الأوروبية إلى ضعف استجابة التكتل للأزمة، فوجهت ألمانيا انتقادا شديدا إلى النمسا وهولندا لإيقافهما تصدير الكمامات لجيرانها، وتم فرض قيود على السفر والتجارة بين الدول الأعضاء، مما تسبب في انخفاض تدفق السلع الأساسية عبر القارة، وفرضت بولندا وجمهورية التشيك والدنمارك وألمانيا قيوداً أدت إلى حدوث خلافات حول تأمين شحنات الإمدادات الطبية، والسلع الأخرى الأساسية لإيقاف الأزمة، أما إيطاليا التي أصبحت بؤرة للفيروس فلم تستلم إلا مساعدات ضحلة من التكتل، وتفرغت دولاً أوروبية أخرى وبينها فرنسا لانتقاد عرقلة هولندا لآلية الاستقرار الأوروبية التي أنشئت عام 2012 خلال أزمة الديون في منطقة اليورو.
يقيناً، ستضع الأزمة الراهنة نادي التكتل الأوروبي على مفترق طرق، بعدما فشلت مراراً محاولات الأوروبيين في اعتماد سياسة "إصلاح سطح البيت طالما أن الشمس تسطع"، فاجتاحت القارة العجوز منذ سنوات موجة الشعبويين والمشككين في جدوى الوحدة، لكن المعضلة التي تواجه الاتحاد الأوروبي الآن، أنه نشأ بالأساس كمشروع للوحدة والتعاون عقب فضيحة الاقتتال الضاري خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، والذي بدت خلالهما أوروبا وكأنها تفني بعضها بعضا، وهذا يعني أن التكتل الأوروبي يبدو الآن كمفارقة تاريخية وكوميديا سوداء، وسط عجز دبلوماسي غير مسبوق في مواجهة أزمات تزداد تعقيداً، وإذا فشل الاتحاد الأوروبي في تطبيق الدروس المستفادة من الجائحة، فقد يتعرض لهجوم متجدد من كافة الفصائل السياسية، إذ ستستغل القوى الشعبوية على وجه الخصوص حالة الخوف والشعور بالعجز لشن حملة ضد الأحزاب والسياسات الرئيسية المطبقة في الاتحاد الأوروبي، وقد تشجع بلدانها على اللجوء إلى الصين كبديل للتكتل؛ طالما أنه لا يقدم للأوروبيين مستوى الحماية التي يتوقعونها منه، وهذا معناه تغول الصين أكثر في أوروبا، ونذير مواجهة أخرى في المقابل مع الحليف الأمريكي الرافض للنفوذ الصيني.
في المجمل، تؤكد الحالة الأوروبية الراهنة، أننا أمام منظومة عجوزة بلا أسنان، تفتقر إلى قادة استثنائيين يفكرون خارج الصندوق، ففي الوقت الحالي تبدو أوروبا محرومة تماماً من زعماء ينتمون لقماشة شارل ديجول، وفرنسوا ميتران، وكونراد هيرمان، وهلموت كول.. بالمختصر هو زمن أوروبي عادي جداً يقوده رجال عاديون أو أقل، وإن كانوا أكثر خطورة.
خاص_الفابيتا