لأسباب فنية لم أستطع مواصلة عرض كتاب "المستقبل آسيوي" The Future is Asian تباعا، ولذلك جاء هذا الجزء الأخير بعد توقف عدة أسابيع. مادة الكتاب الأساسية هي التجارة والاقتصاد لكن المؤلف اضطر لتمهيد تاريخي وسياسي لسببين: الأول أنه يرى آسيا وحدة واحدة على الرغم ما يبدو من أنها أجزاء مختلفة، فهناك دائرة صينية، ودائرة يابانية - كورية، ودائرة هندية، ودائرة روسية - أواسط آسيا، ودائرة إندونيسية - ماليزية، ودائرة تركية - عربية شرق متوسطية، ودائرة خليجية عربية - فارسية. هذه الأجزاء تشكل المجموع الآسيوي.
والسبب الثاني: أن آسيا أعادت اكتشاف نفسها بعد النهضة الحديثة وتراجع النفوذ الغربي. لذلك هناك عودة لآسيا العظمى. في قلب هذا التحول النجاح الاقتصادي الصيني والمبادرات الصينية ووصول نجاحات كوريا واليابان إلى مستوى التعادل مع الغرب، لكن نجاح الصين والهند أحدث تحولا في تأسيس منظومة جديدة. أدوات الصين لقيادة هذا التحول طريق الحرير BRI والبنك الآسيوي الاستثماري للبنية التحتية AIIB، فالمؤسسات المالية والتنموية الصينية الأخرى مثل شركة الاستثمار الصينية وبنك الصين للتنمية وبنك الصادرات/ الواردات الصيني، والبنك المركزي الصيني، هؤلاء ملاك صندوق طريق الحرير "40 مليار دولار".
ذكر شي جين بينج الرئيس الصيني أثناء طرح المبادرات أنها ليست أحادية لكنها جماعية لتكون جاذبة للتعاون، بالتالي من لا يشارك يبدو كأنها غيرة وتنافس أكثر منها مصالح مشتركة. فمثلا أصبحت الهند ثاني أكبر الملاك في البنك وأكبر مستفيد من القروض وأصبح أول رئيس تنفيذي هنديا في مقر البنك في شنغهاي. رفضت أمريكا المساهمة في البنك لكن هذا لم يمنع دولا غربية من المساهمة فيه، المملكة أحد المساهمين. كذلك جاء نقد للصين يتهمها بمحاولة تأسيس منظومة بديلة عن المؤسسات الغربية مثل البنك الدولي الذي مقره واشنطن. ردت الصين أن البنك الدولي رفض تمويل مشاريع كبيرة لتمويل البنية التحتية في آسيا التي تقدرها الصين بـ26 تريليون دولار.
يهدف البنك أن يلعب دورا يجمع بين البنك الدولي وشريكه شركة التمويل الدولية IFC التي تهتم بتمويل شركات القطاع الخاص. كما أن اليابان كانت سباقة في تأسيس بنك التنمية الآسيوي في 1966 في مانيلا. نواة طريق الحرير بدأت 2005 في إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الصين وكازاخستان، وبعدها بعقد أعلنت مبادرة طريق الحرير لتكون محور ربط آسيا بأوروبا تجاريا مرورا بدول وسط آسيا التي كانت تعاني لسببين: الأول أنها مصدرة لمواد أولية في منافسة لروسيا خاصة أنها معزولة جغرافيا لذلك جاء الطريق بمنزلة شريان حياة جديد، والسبب الآخر أنها تعاني نقصا مؤثرا في الاستثمارات خاصة في البنية التحتية والنوافذ التجارية. فكازاخستان أصبحت الرابط الأساس بين آسيا وأوروبا.
توسعت المجالات الاقتصادية على أكثر من مساحة وقطاع. فروسيا ربما بسبب الاحتباس الحراري والتغير في المناخ ازدادت المساحة الجغرافية القابلة للزراعة وبالتالي أصبحت تدريجيا مصدر الحبوب والأغذية للصين واليابان، وكازاخستان لقربها من حدود الصين أصبحت مركزا لمنطقة حرة يتم فيها تداول البضائع وتوظيف العمالة. ومدينة فالدفستك الروسية أصبحت مدينة سياحية. سارعت الصين بتحديث شبكة القطارات لتسهيل نقل البضائع. بلغت التجارة بين روسيا والصين 88 مليار دولار، وبين روسيا واليابان 35 مليارا في 2015. يقول دميتري ترنيين على سبيل المرح إن بيتر مؤسس سانت بطرسبرج في السبعينيات من القرن الـ18 اختار المكان لقربه من أوروبا، فلو كان اليوم ربما اختار فلادفستك لقربها من آسيا التي أصبحت منطقة حرة نشطة ونقطة تحول روسيا نحو آسيا، لكن التجارة ليست طريقا واحدا فالصين خصوصا وآسيا عموما أكبر مستورد للنفط الخليجي، فالمملكة ثاني أكبر مصدر للنفط للصين بعد روسيا يليها العراق، كذلك تذهب أغلبية الصادرات البيتروكماوية.
لن تكون التجارة وحدها كافية للترابط الاقتصادي، فهناك استثمارات متنامية فمثلا هناك استثمارات صينية ويابانية في تركيا، واستثمارات صينية في المملكة مثل شركة النفط ساينوبك في مصفاة النفط في غرب المملكة، واستثمار الصين في أكوابوار، وشراكة لـ"أرامكو" في مصاف في الصين وكوريا واليابان، وخطة أخرى في الهند وباكستان، مركز احتياطي لتخزين النفط في اليابان. أغلبية العمالة الوافدة في منطقة الخليج آسيوية ونجاح دبي مرهون بعلاقتها الآسيوية تجاريا وبشريا ولوجيستيا.
تواصل نهضة آسيا الاقتصادية والعلمية والتقنية كبير بتأسيس عالم جديد يكون الأساس فيه آسيا وليس الغرب. سبق الكاتب كثيرا ممن تحدثوا عن أفول نجم أمريكا لكن قد يختلف كثير معه. لعل البعض اليوم متأثر بما يقول الرئيس الأمريكي عن الحالة الفردية لأمريكا دون اهتمام بالنظام العالمي لكن حتى هذا ليس جديدا إذ إن سياسة أمريكا تاريخيا في تذبذب بين الانعزالية والعالمية. فمثلا في خطاب الرئيس الأمريكي في منتدى دافوس ركز على السياسة الاقتصادية في أمريكا في أغلبية الخطاب دون اهتمام بالعولمة، بينما ركز خطاب رئيس وزراء الصين على العولمة ودور الصين. على صعيد التحديات تواجه آسيا مسائل معقدة مثل التحديات البيئية والتركيبة العمرية والقفز في مستوى الدخل من المتوسط إلى العالي لأغلب السكان.
نقلا عن الاقتصادية
وأيضا لعل المستقبل في افريقيا لمن يريد الاستثمار طويل الاجل