أغلب الاقتصاديين يرغب في الحديث عن جوانب الاقتصاد الكلي مثل البطالة والتضخم وميزان المدفوعات، بينما أغلب المهتمين بالمال والاستثمار يهتمون بأداء الشركات "الاقتصاد الجزئي" وإن لم يستخدموا المصطلح.
قد يبدو هذا التفريق تخصصي النزعة ومفيدا منهجيا لكنه خادع بالنسبة لحال المملكة من زاويتين، الأولى أن الطابع المالي ما زال هو المسيطر على الاقتصاد الوطني. لذلك هناك ضبابية في التفريق عمليا، الزاوية الأخرى والمكملة لهذه الضبابية أن الاقتصاد الجزئي لا يحظى بما يناسبه من الاهتمام في الهرمية الإدارية العليا، هذه الضبابية تمنح مجالس الإدارات دورا مركزيا في إدارة الاقتصاد لكنه تحت الرادار بسبب الضبابية.
ليس من المبالغة القول إننا لو نجحنا في استقرار الاقتصاد الكلي وقصرنا في كفاءة إدارة الشركات ستكون النهاية الفعلية تقويض كل ما تم في الاقتصاد الكلي تدريجيا. هناك تباعد بيروقراطي بين حيثيات السياسة الاقتصادية حتى المالية العامة من جهة وإدارات الشركات من جهة أخرى، هذا التباعد في حالات قليلة قد يخدم الشركات "حرية أكثر للأعمال"، لكن في أغلب الحالات يجد جيوبا للإهمال وأحيانا التمصلح الضيق وبالتالي عدم الانخراط في منظمة اقتصادية شاملة. مادة الاقتصاد الجزئي هي الحوكمة الفاعلة. إجرائيا هناك خطوات نحو الحوكمة لكن تفعيلها جوهريا ما زال صعب المنال.
الصعوبة لا تعني الاستسلام خاصة في ظل الرغبة الحكومية الجادة في الإصلاح، لا بد من المحاولة لإيجاد الصيغة المناسبة لنا لأن الحوكمة ليست انضباطا ورقيا لمتطلبات الجهات الرقابية فقط مثل CMA وSAMA وغيرهما ذات العلاقة بمراقبة المنتج وجودته لكن للتأكد من تحقيق ربح" اقتصادي" وحراك إيجابي في الأعمال ومنافسة محفزة.
سبق أن اقترحت دورا مختلفا نوعيا للعضو المستقل في عضوية الإدارة لكن يبدو أنه لم يلق قبولا لدى CMA لأسباب لا أعرفها لكن لا بد أن منها التوجس من ثقافة التجريب، والتقليد المستورد تحت مظلة ما يمارس عالميا حتى لو أنه غير فاعل لدينا. هذه المرة أحاول مرة أخرى رفع مستوى الحوكمة من منظار آخر:
منظار متابعة أداء أعمال الشركات. جاء في بالي هذا المنظار على أثر قراءة عن دراسة Transformation 20, الدراسة شملت شركات S&P 500 وأكبر 2000 شركة عالمية من خلال ثلاث عدسات كالتالي: 1 - النمو الجديد، ما مدى نجاح الشركة في إيجاد منتجات أو خدمات أو أسواق جديدة أو حتى نماذج عمل جديدة؟ المعيار الأساس هنا كم نسبة المبيعات الجديدة التي ليست من النواة -المبيعات الاعتيادية core وإنما من مصادر النمو الجديدة؟ 2 - إعادة تمركز نواة المبيعات، ما مدى قدرة الشركة على الحفاظ على مبيعاتها من النواة وتكيفها مع التغييرات العنيفة أحيانا في السوق ما قد يعطي مبيعات النواة حياة جديدة؟ 3 - الحالة المالية، ما مدى جودة الأداء المالي للشركة وأسهمها؟ هل استطاعت العودة من الخسارة للربحية؟ والدقة في رقابة الأداء أثناء التحول.
الغرض من هذه الدراسة محاولة معرفة وتقدير قدرات الشركات على التحول الاستراتيجي، الغرض لنا البحث عن صيغة تتطابق فيها أهداف «الرؤية» مع واقع إدارة الشركات. تذكر الدراسة أن 27 شركة "في الدول المتقدمة "فقط اجتازت معايير التحول، لكن ما يهمني الحقيقة من الدراسة هو توظيف هذه العدسات الثلاث من قبل الجهات الرقابية لدينا كأدوات للتعامل مع جوهر الحوكمة ومساءلة الإدارة. لكن أيضا كمحاولة مختلفة وجادة للتكامل في منظومة القرار والإدارة الاقتصادية الجديدة.
نحن في أمس الحاجة إلى رقابة مالية لكن بعين فاحصة على الحيثيات الاقتصادية، الجامع بينهما حوكمة فاعلة. حان الوقت للذهاب إلى ما هو أبعد من الحوكمة الورقية إلى حوكمة فاعلة اقتصاديا. الأمل أن تسارع CMA خاصة للابتعاد عن التقليد والعمل بما يخدمنا فعليا وليس شكليا.
الحوكمة .. وهيئة السوق المالية
نقلا عن الاقتصادية