عرضنا خصائص وأعراض الاستثمارات غير الملموسة، وطبيعة تصرفاتها، ومحاولة قياسها. وفي هذا العمود الأخير، نعرض البنية التحتية غير الملموسة، وطبيعة التمويل. تعودنا الحديث عن البنية التحتية، كمطارات وطرق وموانئ واتصالات وغيرها من الملموسات، وهذه تهم كل القيادات السياسية والاقتصادية في كل بلد، ولكن غير الملموسة نسبيا جديدة، وأحيانا يصعب تحديدها. فلكل أسلوب إنتاج بنية تحتية مناسبة له، فالبنية التحتية لغير الملموس هي الأنظمة والممارسات والمعرفة العامة والمؤسسات، البنية الملموسة تتطلب استثمارا وصبرا واستدامة كي تكون فاعلة، وتسهم في إنتاجية الاقتصاد إجمالا. الحديث التقليدي عن الاقتصاد المعرفي دون وعي لهذه البنية أقرب إلى ترديد ما يقوله الآخرون دون بوصلة. لعل أهم بنية تحتية ناعمة هي مدى الثقة بالمجتمع والرأسمال الاجتماعي، فالمجتمع المنغلق أو المنقسم لن يستطيع تطوير مستوى من الثقة لتدوير المعرفة، حتى المرونة الذهنية لأفراده والتكامل المعرفي، فالرأسمال الاجتماعي المبني على الثقة يعزز احترام القانون، ويقلل تكاليف التبادل الملموسة وغير الملموسة.
موضوع التمويل ليس جديدا؛ حيث الشكوى القديمة في صعوبة جذب رؤوس أموال كافية لتمويل البنية التحتية، خاصة أن أسواق رأس المال تميل إلى الربح السريع في الملموس، ما يجعل الشكوى أكثر إلحاحا في الاستثمارات غير الملموسة، فالأبحاث الأساسية ورأس المال الجريء - كما عرفنا من مراجعة كتاب "الدولة الريادية" - يأتيان من الحكومات وليس من القطاع الخاص في البدايات الأولى والمؤثرة. هناك بعض اللوم على المصارف؛ إذ إن الرهونات عادة لأشياء ملموسة، لكن المصارف لم تتعود، لذلك لابد من إعادة النهج بمساعدة تمويلية من القطاعات العامة لحين تبدأ الاستثمارات غير الملموسة في توليد عوائد مقنعة. ولكن أيضا الصناعة المالية بدأت تتكيف مع هذه الاستثمارات كما رأينا في الأتمتة المالية fintech.
الخطر دائما قائم في نزعة القطاع الخاص "لاستغلال" الأموال العامة تحت مسمى تنمية القطاع الخاص، لذلك - كما ذكر الكاتب في عمود سابق - لابد من مراجعة ومتابعة حصيفة لمسائل القياس والإنتاجية والتكامل. بعد عرض الكتاب لابد من التفكير في مدى استفادة اقتصادنا منه، خاصة في ظل محاولتنا تحديث الاقتصاد. في حالتنا، التحدي التنموي يجعل الفرز بين الملموس وغير الملموس ذا طابع مختلف عن الدول المتقدمة، خاصة أن الكتاب يتابع تطور غير الملموس فيها. ليس لنا أن ندخل في خيار خادع في الأولويات بين الملموس وغير الملموس، لكن لابد من الوعي باختلاف المرحلة من ناحية "التسلسل" والتماثل في الحاجة إلى تحديث البنية التحتية الخشنة والناعمة، فمثلا: هل الترفيه قبل الصناعة؟ في نظري ليس هناك فرق كبير إذا سيطرنا على الناحيتين بكفاءة. فالثقة بالإنجاز هي اللبنة الأولى لتكوين رأسمال اجتماعي مرن، وقادر على التعامل مع طبيعة الأصول والاستثمارات المتغيرة دائما.
الاستثمارات غير الملموسة هي المستقبل، ولكن لن يستطيع أحد القفز، لعل الصين وسنغافورة مثال جيد على تكوين بنية تحتية ملموسة على درجة عالية من الكفاءة، ما مكنها من البنية غير الملموسة، على خلاف الهند، التي رغم نجاح كثير من الهنود في الغرب، خاصة أمريكا، في إدارة استثمارات غير ملموسة، حتى تأسيس "مراكز ومدن" متقدمة في البرمجة، والتعاون مع كبريات الشركات العالمية ذات الأصول غير الملموسة، إلا أنها لم تنجح مقارنة بالصين، لأسباب منها الاختلاف الجذري في البنية التحتية.
نقلا عن الاقتصادية
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع