الرأسمالية لم تولد في الغرب

03/07/2023 5
د.صالح السلطان

لا معنى للنقاش حول أي مسمى دون التفاهم على المعنى المقصود من المسمى موضع النقاش. وتبعا فالسؤال الأول عن معنى الرأسمالية؟ الكلمة السائدة ترجمة للكلمة capitalism وتعني بنية اقتصادية تعتمد على هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح. ويتبع ذلك أن أهم آلية تحدد توزيع الموارد والاستثمار والأسعار هي السوق، ولذا تسمى الرأسمالية أحيانا باقتصاد السوق. ومن يرغب في التأكد من الكلام السابق يمكنه الرجوع إلى أشهر المعاجم والقواميس وكتب التاريخ الإنجليزي، تذكر تلك المراجع أن الرأسمالية تشكلت لها صورة مؤسسية قانونية في الغرب خلال الفترة بين القرنين الـ17 والـ19، وهي الفترة التي شهدت الثورة الصناعية، التي صحبتها تغيرات سياسية وثقافية واجتماعية. أما قبل القرنين الـ17 والـ18، فقد كان النظام الإقطاعي وليس اقتصاد السوق هو السائد في الغرب. وقد وجدت زمن النظام الإقطاعي بعض صور الملكية الفردية، لكن بصورة أقل تنظيما، وحماية قانونية ضعيفة.

تشكل الرأسمالية في الغرب بتلك الصورة لا يستلزم بالضرورة أنها ولدت في الغرب. وتبعا لا يستلزم أنها من اختراعهم. لا بد من النظر إلى ما هو سائد في مجتمعات أخرى قبل القرن الـ17، لا شك أن النظام الاقتصادي السائد في المجتمعات الإسلامية عبر القرون تغلب عليه سيادة الملكية الخاصة، وهيمنة الأفراد والشركاء على عناصر الإنتاج، وهذا ما يتفق مع الأحكام الشرعية، من حيث المبدأ والأصل، وإلا فهناك استثناءات. طبعا ليست كل الممارسات التجارية في المجتمعات الإسلامية خالية من المخالفات الشرعية. وبصفة أعم فإن كل مجتمع فيه ممارسات مخالفة، الرأي السائد لدى مجموعة معتبرة من المؤرخين الاقتصاديين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية خاصة في بلاد الأندلس كان له أثر كبير في تعريف الغرب بميزات اقتصاد السوق والملكية الفردية، وهي أهم مبادئ تقوم عليها الرأسمالية، وبمعنى آخر فإن الغرب تعرف على مبادئ النظام الرأسمالي من المسلمين. ولا يعني ذلك تطبيق ما كان عند المسلمين بحذافيره، كما أنه لا يعني الحصر بالمسلمين.

طبعا كان للمستجدات بعد قيام الثورة الصناعية تأثيرات قوية في كيفية تطبيق الرأسمالية. عامة اقتصادات العالم، وعلى رأسها الاقتصادات الغربية، توصف في الوقت الحاضر بأنها اقتصادات مختلطة. فيها تكون حرية السوق هي الأصل، مع إخضاع كثير من قوى السوق لتنظيمات وقوانين السلطة، وبعض عناصر الإنتاج تمتلكها الحكومات لاعتبارات كثيرة من حقوقية واقتصادية وسياسية، وهي اعتبارات تتفاوت شكلا وقوة بين الدول، وعلى هذا فإن النقاش حول الرأسمالية ينبغي أن يضع في الحسبان حصول تطورات وتغيرات كبيرة، جعلت رأسمالية القرنين الـ18 والـ19 جزءا من التاريخ. وكثير من الكتاب المعاصرين ومنهم بعض من يكتبون عن الاقتصاد الإسلامي يتصورون أو يصورون الاقتصادات الغربية حاليا، بالصورة التي كانت عليها الرأسمالية أيام كارل ماركس وآدم سميث. وهذا كلام غير مسلم به. وكثير من أقسام الاقتصاد تدرس أو تتعرض لأفكار هذين ضمن دراسة تاريخ التطور الاقتصادي في الغرب، وهناك أقسام لا تدرس أفكارهما أصلا.

ينبغي فهم الفكر الرأسمالي وتطور الرأسمالية في الغرب في إطار فهم تطور الاقتصاد وتطور حقوق العاملين في المنشآت. ذلك لأن التطور الصناعي وتطور الاتصالات والمواصلات في القرن الـ17 والـ18 والـ19 كان بسيطا وواضحا مقارنة بالقرن الـ20 فصاعدا. وكانت القوانين والأعراف الخاصة بالعمل وحقوق العمال كأيام الإجازات وساعات العمل والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي أصلا ضعيفة، وتعد غير مقبولة مقارنة بالتشريعات العمالية القائمة الآن.

طبيعة بدايات التوسع والتطور الصناعي والتقني في الغرب حفزت لاحقا منشآت إلى تكوين تكتل trust لتسهيل أعمالها وزيادة أرباحها. وقد جنحت هذه التكتلات إلى التضييق على دخول المنافسين بهدف إبقاء الأسعار أعلى من الأسعار التنافسية، هذه الأحداث دفعت المشرعين في دول إلى إصدار قوانين سميت antitrust التي تعني مكافحة التكتل والاحتكار. وتوسعت هذه القوانين مع الوقت لتشمل تصحيح تشوهات السوق، ومكافحة الممارسات المعطلة لقواه، وحماية المستهلكين، قد أصبحت هذه القوانين، من كثرتها وتشعبها وتعقيدها، مثل البستان الضخم الذي نما من بذور بحجم قبضة اليد. ومع ذلك فإن مكافحة الاحتكار ليست خالية من العيوب، فقد يرى كثيرون أن الاحتكار أو التكتل يجلب، في حالات، تحسينا في الكفاءة الاقتصادية، أما من جهة العاملين، فقد طورت عديد من الدول مع مرور الأعوام مجموعة واسعة من التشريعات التي أعطت مزيدا من الحقوق والمزايا للعمال، وكان لنقابات العمال نصيبها الواضح في هذه التطورات.

 

 

نقلا عن الاقتصادية