في 15 أيلول (سبتمبر) 2008، حصلت أكبر عملية إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة عندما أعلن «بنك ليمان برذرز»، وهو بنك استثمار أميركي عملاق بموجودات قيمتها 600 بليون دولار، إفلاسه. وأطلق العنان لأكبر تراجع اقتصادي عالمي منذ الكساد الكبير عام 1929. ولم يتوقع كثر ما حدث على رغم تحذير بعض خبراء الاقتصاد من وجود فقاعة مالية كبيرة في سوق العقارات تراوح بين 10 و15 في المئة.
ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى عام 2007، تضاعفت أسعار البيوت في العديد من المناطق في الولايات المتحدة ومنها جنوب كاليفورنيا، ثلاث مرات، كما شجع انخفاض أسعار الفائدة لسنوات طويلة كثر على الاقتراض والاستثمار، خصوصاً لأغراض شراء المساكن. وكانت شروط الإقراض سهلة لدرجة حتى الفقراء بدأوا بشراء مساكن بتشجيع من البنوك.وظهرت منتجات مالية جديدة سُمح بها للمرة الأولى، مثل تأجيل دفع الأقساط الشهرية وفوائد القروض فقط، وشراء البيوت بدفعة أولى صغيرة أو حتى من دونها، كما لم يعد مهماً في كثير من الأحيان التأكد من قدرة المقترض على الدفع. وبسبب سهولة شروط الإقراض، تم شراء مساكن أعلى من قيمتها الحقيقية بحدود تصل إلى 15 و20 في المئة. وفي خريف 2007 بدأت بعض مؤسسات الإقراض تواجه صعوبة في الحصول على الأموال لتمويل أنشطتها وبدأ سعر الفائدة بالارتفاع، ما أدى إلى عجز كثر عن تسديد قروضهم، كما انخفضت أسعار المساكن. وعندها طالبت البنوك المقترضين بتسديد قروضهم، لكنهم عجزوا عن ذلك، ما أدى إلى خسارتهم بيوتهم. وواجهت المصارف خسائر كبيرة بعد انخفاض أسعار البيوت المرهونة لديها، وبدأ تسريح العاملين في شركات الرهن العقاري بكثافة حيث خسر 125 ألف عامل وظائفهم بين عامي 2007 و2008. ولم تمضِ فترة طويلة حتى بدأ الانهيار في سوق الرهن العقاري يمتد إلى القطاعات الاقتصادية الأخرى.
وكانت نتائج أزمة الرهن العقاري كارثية على الاقتصاد الأميركي وعلى اقتصادات الدول الأخرى بسبب حجم الأول والتشابك المالي والاقتصادي بينه وبين بقية العالم، خصوصاً الدول المتقدمة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل انتهت ذيول أزمة الرهن العقاري بعد 10 سنين على بدايتها، أم لا تزال ندوبها باقية؟ وهل كانت المشكلة في الفوضى التي عمت قطاع الرهن العقاري، أم أن جذورها أبعد من ذلك في السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة؟
وبعد مرور 10 سنين، لا يزال العديد من الأميركيين يعانون أوضاعاً اقتصادية صعبة، إذ محت الأزمة 8 تريليون دولار من حصة القطاع العائلي في السوق المالية و6 تريليون دولار من قيمة بيوت السكن وخسر 10 ملايين أميركي بيوتهم. وحتى الآن لم يسترجع العديد من الأميركيين ما خسروه من ثروة أو مساكن أو وظائف، واضطر العديد منهم إلى القبول بوظائف جديدة وبأجور أقل، كما لا يزال بعضهم يزاول العمل بعد السن القانونية للتقاعد لتعويض ما خسروه من ثروة.
ويضع الكثير من المواطنين الأميركيين العاديين اللوم في معاناتهم اليوم على 3 مسؤولين سابقين، وهم رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي آنذاك بن بيرنانكي، ووزير الخزانة ومحافظ فرع مجلس الاحتياط الفيديرالي في نيويورك. فبعد إعلان «ليمان برذرز» إفلاسه، ذهب الثلاثة مجتمعين وبسرعة إلى الكونغرس مطالبين بـ700 بليون دولار لإنقاذ البنوك، ودافعوا عن طلبهم بالقول إذا لم يحصل هذا اليوم فلن يبقى الاقتصاد الأميركي، وستواجه الولايات المتحدة انهياراً كارثياً في نظامها المالي وكساداً مشابهاً لكساد 1929. ولكن روايتهم لم تكن حقيقية لأن الأمر يختلف في الحالتين. صحيح أن عام 1929 عندما فشل مجلس الاحتياط في إنقاذ البنوك حصل الكساد الكبير، ولكن عام 2008 كانت هناك «شركة ضمان الودائع الفيديرالية» التي تأخذ على عاتقها الحفاظ على المصارف من التعرض لفشل في سيولتها. ولكن كان هدف المسؤولون الثلاثة الحصول على دعم سياسي بإنقاذهم لمصارف شارع المال. وأدى هذا العمل إلى الإبقاء على الهيكل المالي المنتفخ الذي تكون على مدى 3 عقود وجعل مسؤولو المصارف يكونون ثروات طائلة من الممارسات المالية الخطيرة والتي قادت إلى الأزمة. ولو لم يتم إنقاذ هذا النوع من المصارف، لتم التخلص منها من خلال ديناميكية السوق، ولكن البنوك التي تم إنقاذها أصبحت الآن أكبر من أي وقت مضى. وبما أنَّ تجنب الكوارث أكثر أهمية وفائدة من معالجتها لأنها بعد أن تحدث، يصبح مستوى التدخل المطلوب هائلاً وقد يتجاوز قدرات الحكومات على ذلك.
وخلفت أزمة 2008 ثلاثة دروس مهمة قد لا تكون الحكومات قد استوعبتها بالكامل بعد وهي، ضرورة منع البنوك من ممارسة سياسات ائتمانية خطرة بهدف مضاعفة أرباحها تعرض بها كل الاقتصاد للخطر، وإجبار البنوك على زيادة رؤوس أموالها والاحتفاظ باحتياطات كبيرة، وتقسيم البنوك الضخمة إلى بنوك صغيرة تمارس فيها الحكومة رقابة على أنواع القروض وأهدافها.
الجزم بأهمية تبني سياسات كلية ملائمة، فالسياسة النقدية لوحدها أضعف من أن تمنع انهياراً اقتصادياً، لذلك لا بد من إعطاء أهمية أكبر للسياسة المالية كأداة للإدارة الاقتصادية.
إنَّ بعض العوامل التي تسببت في الكساد الكبير عام 1929، سبقت انهيار قطاع الرهن العقاري عام 2008. ولم يكن ذلك مصادفة وإنما التاريخ يعد نفسه. وكان الدرس واضحاً، فتزايد الفروقات في توزيع الدخل اليوم مؤشر إلى ما يمكن أن يحصل غداً. وحتى بعد أن عاود الاقتصاد الأميركي انتعاشه، بقي هشاً، فالفجوة بين الأغنياء والفقراء اليوم بشكل عام تساوي تقريباً ما كانت عليه قبل الكساد الكبير.
نقلا عن الحياة