يعطي دستور الولايات المتحدة الأميركية الحق للرئيس باتخاذ قرارات مباشرة، في حال تسببت الواردات بمشكلة للأمن القومي، خصوصاً لوزارة الدفاع. وكجزء من هوس الرئيس ترامب بعجز الميزان التجاري الأميركي، الذي لا يُعتبر ظاهرة جديدة بل بدأ منذ العام 1976 وبلغ 703 بلايين دولار في 2013، قرر الرئيس في الثامن من الشهر الجاري فرض رسوم جمركية على الواردات من الصلب بنسبة 25 في المئة ومن الألمنيوم بنسبة 10 في المئة. وقبل ذلك بفترة وجيزة، فُرضت رسوم جمركية على الألواح الشمسية والغسالات الكبيرة المستوردة. وعند اتخاذه قرار الرفع الأخير، قال ترامب: «يجب أن تعيد الولايات المتحدة بناء صناعة الصلب والألمنيوم»، معتبراً أن الدولة التي «لا صناعة صلب متينة فيها ليست بدولة». وأوضح أن قراره يهدف إلى حماية الأمن القومي بفتح معامل صلب وألمنيوم جديدة، وتشغيل مزيد من اليد العاملة في هاتين الصناعتين.
ويعارض الجمهوريون في الكونغرس القرار الأخير، واستقال إثره كبير مستشاريه الاقتصاديين غاري كوهين، لأنَّ دولاً كثيرة ستتضرر من هذه القرارات وتتخذ بدورها إجراءات انتقامية ضد الصادرات الأميركية، ما قد يؤدي إلى اندلاع حروب تجارية تقوّض النمو الاقتصادي العالمي الهش.
ويسمح دستور الولايات المتحدة باستثناء بعض الدول من هذه القرارات. وفعلاً استُثنيت كندا (أكبر مصدّر للألمنيوم في العالم بنسبة 12.1 في المئة من مجموع صادرات الألمنيوم العالمية، والمصدّر الأول للألمنيوم إلى الولايات المتحدة في 2016)، والمكسيك بسبب شراكتهما الحرة مع الولايات المتحدة من خلال النافتا والتزامهما خفض الإنتاج العالمي من الصلب. كما رأى الرئيس الأميركي إمكان استثناء أستراليا أيضاً، إذ أعلن وزير الخزانة احتمال استثناء دول أخرى في الأسبوعين المقبلين. وقد يطلب الرئيس من دول الناتو، أن تزيد مساهمتها في موازنة الحلف، قبل أن تتوقع استثناءها من هذه الرسوم. وهدّد ترامب الدول التي تفكر في اتخاذ إجراءات انتقامية من الصادرات الأميركية بسبب قراره هذا، بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على سلعها، وذكر تحديداً السيارات الأوروبية التي تملك حصة كبيرة في سوق الولايات المتحدة والسلع الصينية.
ويعارض قرار الرئيس الأميركي اقتصاديون كثر في الولايات المتحدة والمعنيون بشؤون التجارة الخارجية، إذ يعتبرون أنَّ إجراءات كهذه لا تتلاءم والتوجه العام للاقتصاد الأميركي أي الاقتصاد الحر، ويناهض صفة الولايات المتحدة كعرابة التجارة الحرة وفي طليعة المدافعين عنها.
ويلفت ترامب إلى أن السياسات والإدارات الخاطئة منذ زمن بوش الأب حتى الوقت الحاضر، تسببت بإغلاق 55 ألف معمل وخسارة 6 ملايين وظيفة في قطاع الصناعة التحويلية، وتراكم عجز في الميزان التجاري بمقدار 12 تريليون دولار. ويبدو أن مفهوم التجارة الحرة وكيفية عملها غير واضحة في شكل كافٍ للرئيس الأميركي. فالميزة النسبية لكل بلد في مجال تكاليف الإنتاج، هي التي تسمح له بالتصدير بكميات كبيرة، في ظل مبادئ حرية التجارة. ولا يمكن بلداً على مستوى تطور الولايات المتحدة، أن يتضرر من حرية التجارة كما تتضرر الدول النامية.
ومن جهة أخرى، لا يعود تراجع قطاع الصناعة التحويلية وتدني عدد الوظائف فيه إلى حرية التجارة، وإنما في شكل رئيس إلى انتشار الأتمتة (استخدام التكنولوجيا المتقدمة والروبوتات). وأظهرت دراسة أكاديمية، أُعدّت في الولايات المتحدة في 2015، أن التجارة الخارجية تسببت فقط بخسارة 13 في المئة من وظائف المعامل الأميركية، والبقية تعود إلى عوامل تكنولوجية.
ويبدو أن الرئيس الأميركي غاب عن باله، أن تراجع قطاع الصناعة التحويلية في الدول المتقدمة عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، يعود إلى التقدم الكبير في قطاع الخدمات التي تسبّبت ثورتا المعلومات والاتصالات في إبرازه كقطاع قائد للنشاطات. وتبلغ مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي الأميركي 79.5 في المئة في 2016، أي أكثر من ثلاثة أرباع، في مقابل 19.4 في المئة للصناعة التحويلية و1.1 في المئة للزراعة. وتحافظ الولايات المتحدة على فائض دائم في ميزان تجارة الخدمات مع بقية العالم، بلغ 231 بليون دولار في 2013. ومصدر الجزء الأكبر من الازدهار الاقتصادي الذي تشهده الولايات المتحدة اليوم هو قطاع الخدمات.
صحيح أن قطاع الصناعة التحويلية خسر 6 ملايين وظيفة، لكن الاقتصاد الأميركي ككل، أضاف في الوقت ذاته 46.6 مليون وظيفة، لذا لا يستطيع الرئيس الأميركي إرجاع عجلة التقدم التكنولوجي والعلمي، والتي أوصلت الاقتصاد الأميركي إلى ما هو عليه الآن إلى الوراء، والمطالبة بإعادة الازدهار إلى قطاع الصناعة التحويلية، فقط بسبب العجز في الميزان التجاري.
ويرى معنيون كثر، أن رفع الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم المســـتورد سيضرّ بالصناعات التحويلية القائمة، على استيراد هذه المواد من الخارج بأسعار أرخص من إنتاجها محلياً.
وســـترفع زيادة الرسوم من تكاليف هذه المصانع، وتؤدي إلى خسارة وظائف كثيرة في هذا القطاع وليس زيادتها.
وفي وقت تُعتبر الصين المقصود الأول من قرارات ترامب الأخيرة، تشير الأرقام عن تجارة الصين والولايات المتحدة بالصلب والألمنيوم، إلى أن الأولى ستكون الأقل تضرراً والأقل اهتماماً بالموضوع. فعلى رغم أن الصين هي أكبر مصدّر للصلب في العالم والولايات المتحدة هي أكبر مستورد له، لا تمثل الصين أكثر من 2 في المئة من هذه الواردات. إذ قبل ترامب فرضت إدارة أوباما رسوماً جمركية على بعض أنواع الصلب الصيني تجاوزت 500 في المئة، ما تسبب بهبوط صادرات الصين من الصلب إلى الولايات المتحدة بمقدار الثلثين. بينما تبلغ حصة كندا والبرازيل ثلث الواردات الأميركية من هذه المادة. إذ استبعدت معامل الصلب والعاملون بتجارتها في الصين، الولايات المتحدة كجهة تصديرية لهم قبل مجيء ترامب.
وتتأثر صناعة الصلب في الصين اليوم في شكل مباشر بالعرض والطلب المحليين، إذ في وقت سجل النمو الاقتصادي في الصين 6.9 في المئة في 2017، كان الطلب على الصلب في الصين أقوى مما كان متوقعاً، خصوصاً من قبل قطاع الصناعة الثقيلة. ومن بين 220 دولة وإقليم، تصدّر الصين لها الصلب، تأتي الولايات المتحدة في المرتبة 26 لجهة الكمية. أما الدول الأكثر استيراداً للصلب الصيني فهي، كوريا الجنوبية وفيتنام والفيليبين وتايلند وإندونيسيا.
وفي مجال الألمنيوم تنتج الصين أكثر من نصف الإنتاج العالمي. وفي 2017 ارتفعت واردات الولايات المتحدة من الألمنيوم إلى أعلى مستوى على الإطلاق. وتُعتبر الصين رابع مجهز لها بعد كندا وروسيا والإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك ما يهمّ المسؤولون الصينيون حالياً «ليس القرارات الأميركية برفع الرسوم الجمركية، وإنما الطلب المحلي على الألمنيوم الذي لدى ارتفاعه، تقلص الصين من صادراتها منه.
لكن تصرفات الولايات المتحدة الأخيرة تثير السخط لدى الصين، لأنها ضد قواعد منظمة التجارة العالمية وممارسات التجارة الحرة، وأعلنت الصين ودول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي، اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية لحماية مصالحهم.
نقلا عن الحياة