اشتكى بوب زيدار Bob Zider في مقالته المشهورة عن رأس المال الجريء في مجلة هارفارد بزنس رفيو في 1998م من أن مستثمري رأس المال الجريء في أمريكا في وقته يبدون أكثر مثل المصرفيين ويستثمرون في رواد أعمال أكثر شبها بخريجي MBA -ماجستير إدارة الأعمال- منهم برواد الأعمال المبتكرين.
Today’s venture capitalists look more like bankers, and the entrepreneurs they"
fund look more like M.B.A.’s."
والجدل استمر بعده حول دور شركات رأس المال الجريء في نمو الشركات، ونوعية الشركات المفترض دعمها، وتلك التي يفترض يضطلع بدعمها قطاع آخر مثل البنوك، أو الجامعات، أو الحكومة.
سأحاول في هذه المقالة إلقاء الضوء على الدور المأمول لشركات الاستثمار من خلال الشركات الناشئة المعروفة برأس المال الجريء في السعودية.
بداية ما هو دور شركات رأس المال الجريء أساساً؟ الإجابة الشائعة هي أن دورهم يتمثل في توفير التمويل للشركات الناشئة عالية المخاطر وبناءً على ذلك يختلفون فيما بينهم في حجم التمويل ومن ثم مرحلة الدخول في الشركة لأن حاجتها للمال مختلفة في كل مرحلة وتكبر مع الوقت. فالشركة الاستثمارية التي حجم تمويلها في حدود 250 ألف ريال، تستثمر في المراحل المبكرة للمشروعات الناشئة قبل تحقيق مبيعات وربما قبل بناء المنتج أصلا.
بناء على ذلك يوجد لدينا مستثمرون في مراحل التمويل المختلفة (pre-seed, seed, early stage, round A, B,C) إلخ. ويختلفون فيما بينهم في حجم التمويل في كل مرحلة.
لكن هل هذا هو الفرق الوحيد؟ لا يبدو الجواب مقنعا لأنه لم يقدم إجابة عن سبب اقتصار كثير من الشركات والصناديق الاستثمارية على مرحلة معينة من مراحل التمويل؟ إذا كانت الشركة ناجحة وحققت عوائد استثمارية جيدة فلماذا لا يدخل المستثمر في الجولات الاستثمارية اللاحقة؟ مرة أخرى قد يقول قائل لأن المستثمر في المراحل الأولية لديه مبلغ قليل من المال يؤهله فقط للاستثمار في هذه المرحلة وهذا أيضا جوابٌ غير مقنعٍ بسبب وجود مستثمرين يديرون محافظ ضخمة وتستمر فقط في المراحل الأولية وأيضا لو افتراضنا أن المال هو العائق للاستثمار في المراحل المتأخرة، فلماذا لا يستثمر رأس المال الجريء المتخصص في المراحل المتأخرة Round A ، في المراحل المبكرة early-stage ؛ للحصول على عوائد أعلى؟
للوصول إلى إجابة مقنعة يجب علينا أن نحرر دور شركات رأس المال الجريء في الشركات الريادية وماهي قيمتها المضافة الحقيقية. لأن حصر دورها بتوفير المال وموازنة المخاطر فقط يؤدي إلى الإشكالات أعلاه.
أعتقد أن دور شركات رأس المال الجريء أو المخاطر هو إكمال النقص في الشركات الريادية أيا كان هذا النقص. وهذا يلزم منهم أن يفهموا طبيعة العمل ويتخصصوا ويبنوا كفاءات عالية في المجالات التي تحتاجها الشركات الناشئة. المال هو أحد جوانب النقص بالتأكيد لكنه ليس كل شيء. ولذلك يتخصص المستثمرون لمعالجة جوانب النقص الإدارية هذه. ولأن حاجات الشركات تختلف حسب حجمها ومستوى نضجها، نجد أن شركات الاستثمار أيضا تختلف في الخدمات التي تقدمها والكفاءات التي تحتويها.
بشكل عام يوجد نوعان من الكفاءات: كفاءة ريادية متفردة unique capability متعلقة بتصميم المنتج وهذه القيمة المضافة للريادي بالدرجة الأولى. ويجب على المستثمر احترام رأي الريادي في هذا المجال ودعمه؛ لأنه سبب الاستثمار غالبا. والنوع الآخر كفاءات وقدرات عامة General capability وتشمل تطبيق أفضل الممارسات best practices وإنشاء السياسات والإجراءات والتوظيف إلخ.
وهذا النوع يتوقع أن يكون ناقصاً عند الريادي لقلة خبرته في إنشاء الشركات ولأن تطبيقها مكلف أيضا إذا أراد الريادي تصميم سياسات متقدمة لشركة ناشئة. وهنا يأتي دور المستثمر لتسهيل هذه الإجراءات بحكم خبرته ولأنه يستطيع أن يوزع التكلفة على محفظة شركاته. من الأمثلة على المهام العامة: تأسيس قسم المحاسبة والموارد البشرية والمشتريات العامة والقانون. ويستطيع الصندوق المساعدة في الكفاءات العامة عن طريق تأسيس مكتب خدمات مشتركة لخدمة شركاته إلى أن تكبر الشركة وتستقل بنفسها.
أو من خلال اختيار الأشخاص المناسبين وتوفير المشورة للشركة. وجود الكفاءات العامة منذ البداية ضروري للشركة وتساعد المدير على اتخاذ القرار المناسب وتقلل التكاليف لكن المعضلة أن تأسيسها يحتاج خبرة لا تملكها الشركات الناشئة عادة. مما يجعل كثير من الشركات تعمل (بالبركة) ولا تعمل بآلية أو سياسات واضحة. رأيت شركات لا تقفل حساباتها إلا مرة واحدة في السنة!
بمعنى أنه لا يوجد لديها قوائم مالية شهرية وبعض الشركات لم تقفل القوائم لعدة سنوات. ويوجد شركات لا تعرف كيف تحسب تكاليفها الحقيقية، وعلى ذلك فقس. هذه الخدمات تشكل البنية التحتية للشركة ولا تستطيع النمو إذا لم تضبطها بسرعة؛ لأن النمو يحتاج معلومات لا يستطيع قسم المالية توفيرها للمدير. ويحتاج موظفين لا يستطيع قسم الموارد البشرية توفيرهم للمدير.
وفي النهاية تتوقف الشركة الريادية عن النمو ومن ثم يقل العائد وتزداد تكلفة الاستثمار مما يجعل الصندوق الاستثماري يعزف عن المساهمة والاستثمار في الشركات. هذه المعضلة تشمل كثيراً من الشركات المتوسطة والصغيرة في السعودية وليست متعلقة بالشركات الريادية الناشئة وهي فرصة استثمارية لمن أراد استهداف هذا السوق، لكن هذا حديث آخر.
لدى كثير من شركات الاستثمار تصور أن قيمتها الكبرى تتمثل في تمويل النمو للشركة الناشئة وهذا تصور منقوص على الأقل في السعودية أعتقد أنه مستصحب من القطاع البنكي الذي لا يستثمر أصلا في الشركات عالية المخاطر. الشركة الناشئة يوجد فيها فريق تطوير المنتج في البداية، يتبعه فريق بيع المنتج، ثم فريق الدعم. وغالبا الصندوق يدخل الشركة قبل تكون فريق الدعم وأثناء تكون فريق البيع. لأن تكوين فريق الدعم متشابه بين الشركات فيفضل أن يساعد الصندوق فيه لتخفيض التكاليف على الشركة. فريق تصميم المنتج عادة مبدع في الجوانب التقنية والفنية تنقصه الجوانب الإدارية.
ودور المستثمر المحترف معاونته على استكمال جوانب النقص الإدارية دعمه في تنفيذ رؤيته. تمكن مارك زكربرغ من تصميم منتج جميل يحبه الناس (فيسبوك)، لكن لم يكن ممكنا له النمو الهائل بدون ذراع تنفيذي إداري محترف يكمل النقص الذي لديه تمثل بـ Sheryl Sandberg شيرل ساندبيرج حيث تسنمت منصب مدير العملياتCOO في فيسبوك. شيرل دخلت فيسبوك بناء على توصية أحد المستثمرين الأوائل وأحد أعضاء مجلس الإدارة. والأمثلة كثيرة جدا في هذا السياق.
لا يوجد دور واحد للمستثمر يناسب جميع الشركات وجميع الدول؛ لأن دوره إكمال النقص في الشركة. فدور المستثمر مع فريق مؤهل ومتمكن مثل ايلون مسك في تسلا يختلف اختلافاً كبيراً عن دور المستثمر مع ايلون مسك نفسه في باي بال لما كان يافعا قليل التجربة.
ما ينقص ايلون مسك في شركة تسلا كان المال بالدرجة الأولى ووجود مستثمر مقتنع بالفكرة عالية المخاطرة بسبب نضج فريق العمل وخبرتهم العالية. في حين في باي بال كان بناء الشركة وتكوين التحالفات التي انتهت باستحواذ شركة إي باي على باي بال.
حسنا، ما الذي نحتاجه في السعودية؟ ما الدور الذي نحتاج شركات رأس المال الجريء أن تقوم به؟
من خلال الحديث مع عدد من الرياديين والمستثمرين في السوق وجدت أن أكثر الشركات تعاني عند التحول من مرحلة منتج واعد إلى شركة تكتمل فيها أدوار المنظمة من مالية ومحاسبة وموارد بشرية وقانونية إلخ. وهذا النقص يشتت الريادي عن هدفه وهو صناعة منتج فعال وبيعه في السوق.
ولأن الشركات الاستثمارية الأكبر حجما -سواء داخلية أو خارجية- لا تستثمر إلا في شركة مكتملة الأركان، فإن هذه الشركات تعاني من الحصول على التمويل الكافي ويتعثر نموها. تكلفة القفزة من شركة ناشئة إلى شركة مكتملة الأركان ذات بنية تحتية عالية، وعادة لا يستطيعها الريادي لوحده، ويحتاج خبرة متخصصة تساعده في التركيز على هدفه.
لكن لماذا على شركات الاستثمار القيام بهذا الدور؟ ألا يكفي استثمارها في الشركة الناشئة وتحملها للمخاطر العالية؟ الحقيقة أن تولي الشركات لهذا الدور يساهم في نمو عوائدها لأنه يسهل دخول المستثمرين في الجولات القادمة مما يضاعف من قيمة الشركة، إضافة إلى تمكين الشركة من النمو السريع مما يمكنها من تحقيق مبيعات أكثر في وقت أقل.
وفقا لـبوب زيدار Bob Zider فإن VCs (الشركاء في شركات الاستثمار الجريء أو المخاطر) يمضون أكثر من 70% من وقتهم في خدمة شركاتهم التي استثمروا فيها. ويشمل جدولهم الرقابة والحوكمة، وتقويم الاستشارات، وتوظيف المدراء والمساعدة من خلال علاقاتهم الخارجية.
لن يستطيع شريك الاستثمارVC القيام بهذه المهام إذا كانت كل خبرته مالية ويعتقد أن دوره يتثمل في تقديم التمويل. ولذلك ناقشت في مقالي السابق أن أفضل مدراء الاستثمار الذين نحتاجهم في السعودية هم أصحاب الخبرة التنفيذية. وهذا يشمل الخبرة التنفيذية بوصفه ريادياً ناجحاً أو تنفيذياً سابقاً في شركة احترافية.
أعتقد أن الفجوة في السوق السعودي لخمس سنوات قادمة على الأقل هو في هذه المرحلة. مرحلة بناء البنية التحتية للشركات التي أثبتت فكرة منتجها في السوق. وهذا يعني أن شركات الاستثمار تحتاج أن تبني كفاءات متخصصة في البنية التحتية للشركات والخدمات الإدارية الأخرى التي تساعدها على النمو، خصوصا إذا كانت خدمات مكلفة أو نادرة بطبعها مثل خدمات تحليل البيانات، growth hacking، وبناء الاستراتيجية، والاستشارات المالية وغيرها مما يتطلب خبرات متخصصة متقدمة لكن ليست مطلوبة بشكل مستمر في شركة واحدة.
يوجد لدينا كمية كبيرة من المبادرات لدفع الشباب لبداية عملهم الحر وإنشاء شركاتهم الخاصة وهذا أمر جميل ولم يكن موجودا قبل عدة سنوات. لكن للأسف تقل هذه المبادرات كثيرا عندما يبدأ الريادي مشروعه وتبدأ معاناته مع الوحدة القاتلة. أكبر محفز للشباب لبدء عملهم الخاص ليس ملتقى يخطف الأبصار إنما رؤية أمثلة حقيقية ناجحة في محيطه الخاص. وهذا يتأتى من خلال تمكين الشركات في منتصف الطريق وهم في أحوج ما يكونون للدعم.
خاص_الفابيتا
مقالة جميلة وفيها نظرة واقعية لمقومات النجاح في العمل الحر ... بالنسبة لي هذا الكلام رغم إستمتاعي بقراءته إلا أنني أول مرة أجد فيه تفصيل واضح لمعنى رأس المال الجرئ ودوره في تحريك الاقتصاد والمؤسسات الناشئة !! شكراً جزيلاً أخي محمد الصبيح ومن الان أنت ضمن متابعاتي فمقالك يستحق عشرة من عشرة.