إن الرفاه المادي الذي يحققه الفرد لا يمكن قياسه بمجموع ما ينفقه أو ينفق عليه من أموال، بل بما يحصل عليه مقابل هذا الإنفاق. فعلى سبيل المثال، المنفعة التي نحصل عليها من السكن في منزل ما لا تتغير سواء اشترينا هذا المنزل بمليون ريال أو مليونين ريال. إذ أن العبرة بالقيمة (المنافع) وليس التعويضات المدفوعة (السعر).
وعليه، فإن رفاه الفرد يتأثر بعاملين: الأول مقدار الموارد المتاحة، والثاني كفاءة إنفاق هذه الموارد. ولذلك، يمكن تحسين مستوى الحياة المادية بزيادة الدخل أو تحسين مصارف الدخل. وهو ما ينطبق مع الحديث الشريف " التدبير نصف العيش ..".
ربما نتطرق كثيرا إلى أهمية زيادة الدخل. إلا أنني أحاول في السطور القادمة التركيز على النصف الآخر من المعيشة وهو التدبير، أو كفاءة الإنفاق التي نصل إليها بتحقيق أهدافنا بأقل الموارد.
أمثلة الهدر
وقبل طرح بعض الحلول المحتملة، أحاول سرد بعض أمثلة انخفاض كفاءة الإنفاق الفردي والحكومي.
ربما يكون المثال التقليدي لسوء التدبير في موارد الدولة هو حفر الشوارع لعمل التمديدات الأساسية بعد أعمال الإسفلت. لماذا؟ هل المشكلة معقدة إلى هذا الحد؟
مثال ثاني، يأتي من نوع الجوال والكمبيوتر الشخصي أو المؤسسي. كم منا يستخدم المواصفات الفنية التي اشتراها؟ هل من الممكن الحصول على المنفعة التي نبحث عنها بموارد أقل؟ هل نحتاج لكل المواصفات التي نشتريها؟
وثالث أيضا، عندما يقوم المواطن ببناء منزل بين منزلين قائمين، يقوم بإنشاء أسوار جديدة ملاصقة لأسوار جيرانه. لماذا يضطر المواطن لدفع هذه المبالغ مقابل قيمة صفرية؟
وفي ذات السياق، كم من الأسر تعيش في منازل أكبر من احتياجها؟ ينتهي رب الأسرة من بناء "منزل العمر" عندما يقارب أولاده على الخروج من المنزل. كما أن بعض المرافق لا تستخدم إلا لمرات قليلة من عمر المنزل. ما هي القيمة التي نحصل عليها مقابل انشاء هذه المرافق؟
مثال خامس، يضطر مدير المنشأة الحكومية إلى انفاق المبالغ المتبقية في نهاية العام المالي - ولو بدون حاجة- ليتمكن من المحافظة على ميزانيته للعام التالي. بالتأكيد، سوف أقوم بذات الفعل لو كنت مكان المدير، إذ أن الخلل في النظام وليس في التصرف.
مثال آخر من برنامج الإبتعاث. ما هو المردود من التعاقد مع شركة لتقديم تذاكر الطيران؟ إذا كانت الشركة تقدم التذاكر بأسعار أقل من الأسعار التي يمكن أن يحصل عليها المبتعث، فذلك حسن. وإذا لم تكن كذلك، لماذا لا يتم تحويل قيمة التذاكر مباشرة للمبتعث؟
مثال سابع، يستأجر المبادر أحد المعارض ولا يتمكن من افتتاح مشروعه التجاري قبل 6-12 شهر بسبب الإجراءات الحكومية ؟ ولا ينعكس ذلك في شكل منفعة لا على صاحب العقار ولا على صاحب المشروع أو الدولة. بل على العكس، يتضرر صاحب المشروع بخسارة إيجار سنة كاملة، ويعاني مالك العقار من ارتفاع مخاطر استمرارية المستأجر بسبب ارتفاع المخاطرة لمشروعه بسبب ارتفاع تكاليف التأسيس. ألا يمكن حل ذلك؟
كذلك صاحب العقار، يقوم بتطوير المبنى التجاري أو السكني، ثم يضطر للانتظار مدة طويلة حتى يتم اطلاق خدمة التيار الكهربائي. مما يرفع من تكلفة المبنى الكلية، والتي تنعكس في ارتفاع السعر على المستأجر، أو انخفاض عوائد المالك. لماذا ؟
الكرم، قيمة عربية أصيلة لم يتنازل عنها المواطن، لكن إكرام الضيف لا يعني الهدر. ماهي القيمة التي يحققها الفرد من تقديم طعام 10 أشخاص لضيف واحد؟ وكيف يمكن علاج ذلك؟
هذه بعض أمثلة انخفاض كفاءة الإنفاق، كما أنني على يقين بأن القارئ الكريم لديه الكثير من الأمثلة سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الدولة.
والسؤال، ماذا يمكن أن نعمل؟
على مستوى انفاق الدولة، قامت الحكومة بإلزام نفسها برفع كفاءة الإنفاق كما ورد في مقابلة سمو رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. نتمنى أن تنجح هذه الجهود.
على مستوى الفرد، فإن الجزء الأكبر من الحل في يد الحكومة. وأظن أنه ينقسم إلى جزئين: حل فوري، وحل طويل المدى.
أما الحل الفوري، فإن على الحكومة أن تعيد النظر في كافة الإجراءات والأنظمة التي تتسبب في هدر ميزانية المواطنين والمستثمرين بما يعزز من كفاءة الإنفاق. إذ ينبغي أن يقوم مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بإنشاء لجنة تقوم بتحديد مصادر الهدر في انفاق المواطن، والطلب من العموم المساهمة في اضافة المصادر التي تغفل عنها اللجنة، على أن تعطى صلاحيات كافية لمعالجة هذه الإشكالات، وذلك عبر حزمة من الأدوات في مقدمتها إصلاح النظم والقوانين، والبرامج التوعوية.
على سبيل المثال، ربما يرى المجلس أنه من المناسب إعادة النظر في اشتراطات البناء بما يعزز من المنفعة التي يحصل عليها المواطن مقابل كل ريال يدفعه. كما يمكن تبسيط الإجراءات الحكومية بما يخفض التكاليف التي لا تعود بمنافع على أي من أصحاب المصالح في الكثير من القطاعات.
أما الحل طويل الأمد، فهو التعليم بكافة وسائله. إذ يمكن أن يتم تضمين المناهج الدراسية بعض مفردات المالية الشخصية، كما يمكن أن يقوم خطباء الجمعة بنبذ الإسراف، والتأكيد على الكرم المحمود بشكل مستمر.
الخلاصة، إن تحسين جودة الحياة المادية للمواطنين، تعتمد على أمرين: زيادة دخل المواطن، وتعزيز كفاءة انفاقه. وكلاهما ضروري لتحقيق أحد أهداف الدولة العليا، وهو زيادة رفاه المواطنين. وعلى الحكومة مسؤولية القيام بواجبها في تحقيق هذا الهدف، ليس فقط عبر زيادة الدخل، بل أيضا عبر رفع كفاءة الإنفاق لدى المواطني.