عندما نخطئ- أنا وأنت وهو - نبحث عن شماعة نعلق عليها أخطاءنا .. فهل عدم الإعتراف المباشر بالخطأ سلوك إنساني قويم وصحيح ؟ ..للإجابة على هذا السؤال يجب أن ندخل في متاهات تعريف الخطأ والتفريق بين الخطأ البسيط والخطأ الجسيم وصفة من ارتكب الخطأ والظروف والبيئة التي ارتكب فيها الخطأ .. ولكن واختصارا لكل هذه المتاهات وللدخول في صلب الموضوع حالا أود أن أطرح سؤالا محددا جدا ..هل الأزمة المالية العالمية السبب الوحيد لتعثر الشركات المساهمة العامة في منطقة الخليج ؟ .. لا أعتقد ذلك .. قد تكون الأزمة السبب الوحيد لتعثر دول وبنوك وشركات في مكان آخر من العالم .. نعم قد أوافق على ذلك .. ولكن بما أنني لست مطلعا بما يكفي على ما يجري في جنبات هذا العالم الواسع فإني سأكتفي بالحديث عما رأيته وسمعته وخبرته خلال السنوات السبع الماضية هنا في منطقة الخليج العربي .
قبل عام ألفين وثلاثة كانت الشركات في منطقة الخليج تعمل بطريقة عقلانية محافظة ، وكان ما يجري في العراق خلال تلك الفترة يقلقها ويقض مضجعها وكانت الأموال الأجنبية تأتي إلى المنطقة مترددة وخجلة ولم تتحرر الأموال الأجنبية والشركات الخليجية من مخاوفها إلا بعد دخول القوات الأمريكية ساحة الفردوس وسط بغداد في 9/4/2003 لقد كان ذلك اليوم بمثابة اللحظة التاريخية التي حررت الأموال والشركات من كابوس المخاطر العالية .
لعبت الأموال الأجنبية - الساخنة والباردة – المتدفقة إلى المنطقة دورا كبيرا في رفع أحجام فوائد السيولة في الدول الخليجية وخاصة الكويت والإمارات وقطر وبالرغم من أن هذه الدول غنية ولديها سيولة عالية أصلا إلا أن دخول الأموال الأجنبية على الخط لتمويل مشاريع ( البنية التحتية ، التشييد والعمران ، السياحة والسفر ) زاد من الكتلة النقدية المتاحة و المتداولة في خزائن البنوك وصناديق الشركات ويد الجمهور .
خلال عام ألفين وثلاثة ضخت الشركات العقارية مبالغ هائلة في مشاريعها العمرانية وفي عام ألفين وأربعة ظهرت بوادر فقاعة أسواق المال ثم تسارعت الفقاعة في جميع الأسواق الخليجية وخاصة السعودي والكويتي والإماراتي والقطري وبقدرة قادر قفز سهم شركة إعمار العقارية في غضون أشهر قليلة قفزات صاروخية وضعته في منتصف عام ألفين وخمسة قريبا من مستوى خمسين درهم - كلام ولا في الأحلام – وحكاية إعمار تكررت في جميع الأسواق الخليجية وكبرت الفقاعة ثم انفجرت .. لكن المؤسف في الأمر أن صوت انفجارها بقي مكبوتا مكتوما داخل أسوار الأسواق ولذلك فشل الكثير من المدراء والرؤساء التنفيذيين في الشركات المساهمة العامة الخليجية في سماعها ومن سمع رفض أن يصدق .
الهاربون من سوق المال لجأوا إلى سوق العقار ومن باع أسهمه العقارية أو غير العقارية انغمس في المضاربات العقارية ثم لحق بهؤلاء من جاء بأمواله طمعا بانفكاك العملات الخليجية عن الدولار فتحولت السيولة النقدية إلى شلالات تنهمر في كل مكان واشتعلت أسعار العقار حتى بلغ لهيبها جيوب المستأجرين المساكين وخلال هذه المعمعة وبالتحديد مطلع عام ألفين وثمانية التقيت بمسؤول رفيع جدا في شركة تمويل عقاري كبرى ودار بيننا حوارا قدته متعمدا إلى سؤال كان يجول في رأسي كثيرا:" أليست مخاطرة كبيرة جدا أن تمول فيلا قيمتها مليون درهم بملبغ تسعمئة وخمسين ألف درهم ؟".. ابتسم الرجل ابتسامة ساخرة وأجابني بشيء من الإستعلاء :" ما نموله اليوم بمليون سيكون ثمنه العام القادم أكثر من مليونين ؟ .. فاكتفيت بما سمعت ووتراجعت عن الإستدراك بسؤال آخر خشية أن ينهرني ذلك المسؤول الكبير أو ينعتني بالغباء .. وهو قادر على فعل ذلك إن شاء .. ولكن وبعد انفجار فقاعة العقار.. اكتشفت أني مصيب لكني بلا قرار .. وأنه مخطئ لكنه صاحب القرار .
اليوم ونحن في عام ألفين وعشرة ، ومع تحول الأزمة المالية العالمية لشماعة يعلق عليها الجميع – دول ، بنوك ، شركات ، دكاكين ، محطات تلفزيون .. الخ – أخطاؤهم أليس من العدل أن ننظر إلى أخطاء البنوك والشركات قبل أن نحمل الأزمة ما لا طاقة لها على حمله بمفردها وهنا يأتي الوقت المناسب لطرح السؤال الأهم والأعم والأشمل .. ما هي الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها البنوك والشركات الخليجية وكانت سببا رئيسيا في ورطتها الحالية؟.
أولا : اندفاع البنوك في الإقراض لمن يشاء وبدون ضمانات حقيقية وفوق طاقتها القصوى .
ثانيا : عدم إدراك بعض إدارات البنوك لما يحيق بها من مخاطر ائتمانية واستغلالها "الأموال الساخنة" التي دخلت المنطقة – للمضاربة على العملات الخليجية – في تمويل مشاريع طويلة الأجل وهم يعرفون أو على الأقل كان يجب أن يعرفوا أن هذه الأموال جاءت لآجال قصيرة جدا .
ثالثا : اقتراض الشركات المساهمة العامة للأموال بلا حساب واستغلالها في توسعات جغرافية أو إضافة أنشطة غير متسقة مع أنشطتها التشغيلية وبلا مبررات أو مسوغات مقنعة .
رابعا : اعتماد الشركات على قروض قصيرة المدى للإستثمار في مشاريع بعيدة المدى وهذا خطأ فادح انكشفت عورته بسبب الأزمة المالية العالمية .
خامسا : تحول شركات الإستثمار والتأمين إلى مضاربين في أسواق الأسهم وبطريقة غير محترفة مما عرضهم لمخاطر وخسائر كبيرة ومرعبة .
سادسا : توجه "قطعان" الشركات للمضاربة والإستثمار في البناء .. ثم البناء.. ثم البناء دون التحوط للمخاطر الناجمة عن هذا التوجه .
سابعا : خلافا لهدر الموارد والإنفاق الزائد ظهر فساد مالي وإداري لم يتوقعه الكثيرون ويبدو أن ما تم اكتشافه قليل وما سيتم اكتشافه لاحقا كبير .
ثامنا : فشل الشركات في خلق وإنتاج إدارة مخاطر حقيقية قادرة على الدراسة والبحث والتحليل وإبداء المشورة والنصح عند الضرورة بل والمشاركة في صنع القرارات الخطيرة ووضع السيناريوهات المحتملة وكيفية التصدي لها عند الحاجة .
تاسعا : المكافآت الهائلة التي كان بعض المسؤولين في الشركات يمنحونها لأنفسهم وللمقربين منهم والتي تجاوزت المنطق والمعقول والتي لم تقف عند مستوى مليون وعشرات الملايين بل وصلت عند بعض الجشعين لمئات الملايين .
عاشرا : انسياق الكثير من الشركات الخليجية خلف دراسات جدوى كاذبة ومضللة قدمتها بيوت خبرة وشركات استثمار أجنبية – مقابل عمولات ضخمة - تتدعي إمكانية تحقيق أرباح خيالية .
إن المطلوب من البنوك والشركات الخليجية المتعثرة أو التي على وشك أن تصبح متعثرة الإعتراف بأخطاءها ثم انتقاد هذه الأخطاء علنا أمام مساهميها في الجمعيات العمومية وعدم ذكر عبارة الأزمة المالية العالمية كثيرا في جدول أعمالها ومحاضر جلساتها والإكتفاء بالإصرار على تجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة علهم بذلك يستحقون ثقة المساهمين مرة أخرى .
أحسنت .. رصد ممتاز لتطورات الطفرة وما أعقبها
مقال رائع الله يبارك فيك. الحقيقة ان في الفا بيتا مواهب رائعة تستحق الاشادة و الثناء و انت من هولاء.