تعويم الجنيه المصري شأنه شأن أي خطوة إصلاحية نقدية أو مالية أو اقتصادية لا يمكن إلا ان تكون له جوانب إيجابية وجوانب سلبية، وواجب السلطات النقدية ان تعمل للتقليل من الجوانب السلبية قدر الإمكان، فقرار تعويم العملة كي يحقق هدفه المرجو يجب ان يكون جزءاً من حزمة إصلاحات متزامنة ومكملة لبعضها بعضاً.
إن تعويم العملة وفق التعريف الاقتصادي هو جعل سعر صرف هذه العملة أمام العملات الأجنبية محرراً في شكل كامل، فلا تتدخل الحكومة أو المصرف المركزي في تحديده في شكل مباشر وإنما يتحدد تلقائياً في سوق العملات من خلال آلية العرض والطلب. وتتقلب أسعار صرف العملة العائمة باستمرار مع كل تغير يشهده العرض والطلب على العملات الأجنبية، بل ويمكن ان تتغير مرات كثيرة كل يوم.
ويرى المدافعون عن نظرية تعويم العملة ان تحرير أسعار الصرف سيجعلها تعكس الأساسيات الاقتصادية لمختلف البلدان (النمو، الرصيد التجاري، التضخم، أسعار الفائدة)، وسيقود ذلك إلى إعادة توازن العلاقات التجارية وحسابات المعاملات الجارية باستمرار وفي شكل آلي. ويتطلب تحديد سعر العملة من المصرف المركزي استعداداً لديه للتدخل في أي وقت للدفاع عن هذا السعر، وهذا يقتضي ان تكون لدى المصرف كميات كبيرة وكافية من الاحتياط النقدي الأجنبي الذي يرتبط حجمه بتوافر نشاطات تصديرية سلعية أو خدمية مولدة للعملات الأجنبية إلى جانب تحويلات العمال في الخارج وغيرها.
وعندما نأتي إلى قرار المصرف المركزي، صحيح ان القرار رُبِط بشروط طالب صندوق النقد الدولي بتنفيذها لمنح مصر تمويلاً بقيمة 12.5 بليون دولار، إلا ان هذا لا ينفي ان الاقتصاد المصري كان في حاجة إلى هذه الخطوة من الناحية الاقتصادية والنقدية.
ان قرار تعويم الجنيه المصري هو جزء من استعادة الثقة في الاقتصاد المصري وتحقيق الاستقرار النقدي، فهذا القرار يستهدف تصحيح سياسة تداول النقد الأجنبي واستعادة تداوله داخل القنوات الشرعية وإنهاء السوق الموازية للنقد الأجنبي تماماً، وذلك بإعطاء مرونة للمصارف العاملة في مصر لتسعير شراء النقد الأجنبي وبيعه طوال أيام الأسبوع. وسيسمح القرار للمصرف المركزي بإعادة بناء الاحتياطات الأجنبية لديه ويخفف شروط التصدير والاستيراد.
ويأتي قرار تعويم العملة في سياق البرنامج الأوسع للإصلاح المالي والهيكلي الذي أعلنته الحكومة المصرية وجاري تنفيذه بإحكام لخفض عجز الموازنة والدين العام من خلال استكمال إصلاح منظومة الدعم، وترشيد الإنفاق الحكومي، وخفض الواردات خصوصاً الاستيراد العشوائي، وزيادة الصادرات، وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، وحفز البورصة المصرية. وفي هذه الشؤون اتخذ المجلس الأعلى للاستثمار أخيراً قرارات مهمة. ومن شأن القرار استعادة ثقة الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد المصري وزيادة الصادرات المصرية وتأمين المواد الخام المستوردة للتوسع في مجال الصناعة من أجل التصدير.
سيحدث القرار من دون شك بعض التقلبات القصيرة المدى في بعض بنود الموازنة التي لها علاقة بالدولار أو العملات الأجنبية الأخرى، لكن في المدى المتوسط سيتحقق استقرار أكبر للموازنة والأرباح لكون الجنيه سيبتعد عن المضاربات وسيتحرك في نطاق هامش ضيق نسبياً. وستنشط عمليات المصرف المركزي في التمويل التجاري والخزانة في صورة أكبر نظراً إلى رفع القيود على هذه النشاطات التي كانت مرتبطة بمحدودية توافر العملة الأجنبية لدى المصرف.
لكن هذا القرار سيفرض بعض التحديات. فنجاح التجربة مرهون بقدرة المصارف على تأمين العملة الأجنبية باستمرار وإلا سيلجأ الأفراد والشركات إلى السوق السوداء مرة أخرى. أما بالنسبة إلى تأثير التعويم على أسعار السلع، فثمة نوعان من المستوردين: القطاع الخاص والقطاع العام. على صعيد السلع التي يستوردها القطاع الخاص، وبخلاف ما يعتقد، يمكن لتحرير العملة ان يساهم في خفض أسعارها لأن هذا القطاع يمكنه الآن الحصول على العملة الأجنبية التي تمول عمليات الاستيراد من خلال المصارف بأسعار تقل عن أسعارها التي كانت متداولة في السوق السوداء. أما بالنسبة إلى السلع التي يستوردها القطاع العام، فمن المتوقع ان ترتفع أسعارها لأن القطاع العام كان يحصل على الدولار من المصارف الرسمية بسعر لا يمثل قيمته السوقية الحقيقية.
ختاماً لا بد من ان تكون هذه الخطوة جزءاً من حزمة أكبر للإصلاح الاقتصادي، فالحكومة المصرية اتخذت مجموعة من الإجراءات، كبرنامج «تكامل وكرامة»، وبرنامج «معاش الضمان الاجتماعي»، إضافة إلى تأمين 200 بليون جنيه كقروض للمشاريع الصغيرة ومليون وحدة سكنية للشباب، ورفعت قيمة الدعم المقدم إلى المواطن كإجراءات احترازية لتقليل تأثيرات القرارات الاقتصادية الصعبة. ورفعت سعر الفائدة على الودائع الدولارية ثلاثة نقاط من أجل تعزيز قدرة المصارف على سحب العملة من السوق الموازية والسوداء وإدخالها من ضمن النظام المصرفي.
يبقى القول أخيراً ان من واجبنا كمصرفيين عرب ان نقدم كل الدعم الممكن للجهود الإصلاحية للحكومة المصرية لكون استقرار الاقتصاد المصري ونموه، وبحكم ثقل ومكانة مصر عربياً، يمثلان عاملي استقرار قوي ورئيس لاستقرار الاقتصادات العربية وتعزيز بيئة الاستثمار الآمنة فيها ما يعزز من الأعمال التمويلية والاستثمارية للمصارف العربية.
نقلا عن الحياة